أثار المعاش الاستثنائي لعبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق، لغطا كبيرا لم ينته بعد. إن هذا المعاش الاستثنائي، ريع غير مشروع يحصل عليه وزراء ورؤساء حكومات سابقون ومغنون ورياضيون غير معوزين. فلماذا خص الناس زعيم العدالة والتنمية بكل هذا التذمر والإدانة؟ لأن بنكيران هو الشخصية الأكثر شهرة بالمغرب ـ إذا ما استثنينا الملك ـ ولهذا فإن له معجبين كثرا وخصوما بل وأعداء أشداء لا يقلون عددا.
وبعض من المعجبين به معارضون صادقون للنظام. كما أنهم ليسوا كلهم إسلاميين أو محافظين. التقيت يساريين كثيرين وديمقراطيين ليبيراليين وعلمانيين يقدرون بنكيران وخصوصا بعض ضربات القرن الأليمة التي وجهها للمخزن سنة 2016 وبداية سنة 2017. بل أعرف مسيحيا مغربيا ـ والمسيحيون قلة قليلة جدا مضطهدة ومضطرة للعيش في الخفاء ـ أيد بنكيران أثناء ما سماه ملحمة البلوكاج الشهيرة. كان يقول الشاب المسيحي المثقف والذي عاش ببلدان الغرب الديمقراطية لمدة غير بسيطة: أنا غير متفق معه وليس لدي نفس اعتقادات الشعب الذي انتخبه ولكنه «يمثل عواطف الساكنة ويسخر أحيانا وهو على رأس الحكومة من الطغيان المخزني ومن رجالاته المرتشين».
يبدو أن كل هذا الإعجاب بالرجل تراجع إلى الوراء منذ أن قبل بنكيران «المعاش الاستثنائي» بل التقيت نقابيا اتحاديا قديما أسر لي أن صدمته ذكرته بالصدمة التي عاشها لما دعت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل اليسارية وزير الداخلية آنذاك إدريس البصري لأحد مؤتمراتها الوطنية أواسط التسعينيات
لندقق الأمور الآن: إن أحقية الناس الذين يتجاوزون الستين في المعاش شيء طبيعي وعادي. إن أغلبية دول العالم توفر لرؤساء دولها وحكوماتها السابقين معاشا محترما مدى الحياة خصوصا إذا لم يكن لديهم مدخول شخصي يضمن لهم عيشا كريما. كما أن كل الوزراء المغاربة وليس فقط رؤساء الحكومات ـ باستثناء من استقال ـ يحصلون على معاش. إذن لماذا كل هاته الحملة غير المسبوقة والتي تبدو مشروعة ومسعورة في نفس الوقت ضد بنكيران حتى من بعض أعضاء عشيرته الإيديولوجية؟
أحد الأسباب أن هذا المعاش ممارسة لا دستورية وريعية يعتبرها أغلب المغاربة أمرا مرفوضا ولا أخلاقيا، هي منحة من السلطة هدفها الإخضاع السياسي بل تلويث سمعة نخبة النخبة وعزلها عن الشعب. فكما يعلم الجميع فإن الوزراء السابقين والبرلمانيين السابقين في كل البلدان تبقى لديهم في الغالب الأعم هالة وشهرة وكلمة مسموعة والتي يمكن أن توجه ضد النظام بفعالية فهم لديهم معلومات من الداخل لا يتوفر عليها غيرهم. كما أن لديهم ولوجا سهلا للإعلام ومعرفة بأساليبه وقنوات التأثير فيه. ومن الصعب أيضا وضعهم في السجن لأسباب وتهم سياسية، نظرا لخدمتهم السابقة للدولة وللعلاقات التي يحتفظون بها داخل الميكروكوزم الحاكم..
اهتدى النظام بالمغرب لهاته الطريقة لتكميم أفواههم فكما يقول مثل إفريقي قديم «الفم الذي يمضغ لا يتكلم». الهدف كذلك هو كسر شوكتهم اذا ما كانت لديهم شوكة ونزع مصداقيتهم إن تبقى شيء منها بعد بعض سنوات من ممارسة سلطة لا سلطة لها.
هاته الممارسة الريعية تقسم كذلك النخبة السياسية وتجعل الصراع محتدما بين صفوفها للحصول على منصب في الحكومة ولو لعام واحد. هكذا انفرط عقد منظمة العمل الديمقراطي الشعبي أواسط التسعينيات من القرن الماضي لهذا السبب رغم أنه كان يتزعمها آنذاك المقاوم والرجل العفيف محمد بنسعيد آيت إيدر. سال لعاب بعض رفاقه من القيادة فشقوا الصفوف وخلقوا حزبا آخر بمساعدة الداخلية للتموقع بحسب ما يضمن دخولهم للحكومة..وكذلك كان.
سبب آخر مهم جعل الكثير من الناس ينتفضون ضد بنكيران وهو أن زعيم العدالة والتنمية كان قد كون صورة قوية لدى الناس يبدو من خلاها كالشخص العصي على الهضم وعلى الإدماج، كالرجل المجسد للكبرياء الشعبي، كالفاعل المضاد للنظام (Anti-System) دائما وأبدا، من داخل وخارج الحكومة. كل هاته الصورة خُدشت وترهلت اليوم بل هي مهددة بالاندثار إن لم يتدارك الرجل الأمر. ولا شك هو فاعل في الأشهر أو السنوات القادمة. فبنكيران حيوان سياسي بامتياز إلا أنه يعرف أنه أصبح حيوانا جريحا اليوم. إنه يحمل عبء قرار غير حكيم ولا عادل اتجاه المعوزين والفقراء الذين اعتقدوا فيه وآمنوا بما يقول وغيرهم ممن اعتقدوا كذلك في خطابه الرافض للريع والفساد.
هذا القرار والذي ولا شك اتخذ في حالة ضعف بشري جعله يتكلم الآن وكأنه مريب.واعتقادي أنه لن يتحمل هذا لمدة طويلة فنرجسيته وولهانه بمحبة «شعبه» ستجعله يحاول التخلص من هذا الحجر الثقيل الذي يثقل كاهله ومن هذه الحصاة اللامرئية بفيه و التي تجعله يتلعثم في الكلام. وهو رجل لا يحب التلعثم في الكلام.
وفي ختام الكلام فليتذكر بنكيران أن القطاع الإجتماعي الذي حمله، وهو في الغالب متدين، يقول : «تموت الحرة ولا تأكل من ثدييها» و يقول المغاربة «كل التبن وادهن شفايفك بالسمن». انتهى الكلام.