حلت يوم 29 أكتوبر الذكرى 49 لاختفاء زعيم اليساري المغربي المهدي بن بركة من وسط باريس، ويستمر اختفاءه لغزا من ألغاز الاغتيال السياسي في القرن العشرين خاصة في ظل رفض مخابرات دولية مثل الفرنسية والأمريكية الكشف عن الحقيقة ورفع السرية عن الملفات المتواجدة في وزارة الدفاع.
ويعتبر بن بركة علاوة على دوره البارز في تاريخ الحركة الوطنية المغربية في مواجهة الإستعمار من المؤسسين الفعليين لليسار المغربي. وفي الوقت ذاته، اليساري المغربي الذي لعب دورا هاما على الصعيد العالمي فيجمع قوى اليسار لمواجهة الإمبريالية عبر مؤتمر القارات الثلاث في كوبا الذي كان سيترأسه بتنسيق مع شخصيات من حجم جمال عبد الناصر وفيدل كاسترو وتشي غيفارا، ولكنه تعرض للاغتيال.
وتعتبر وقائع اختفاءه يوم 29 أكتوبر أمام مقهى ليب في العاصمة باريس معروفة، وتتجلى في تورط أفراد من الشرطة الفرنسية في عملية الاعتقال بتنسيق مع المغاربة و وأطراف أخرى مجهولة حتى الآن. لكن بعد عملية الاختطاف أمام مقهى ليب، تتعدد الروايات فاسحة المجال أمام اللغز الذي يستمر الى وقتنا هذا ويجعل من قضية ابن بركة من أشهر الاختطافات والاغتيالات السياسية خلال القرن العشرين.
وتوجد حتى الآن ثلاث روايات حول مصير جثة المهدي بن بركة وهي:
-رواية اغتياله خلال عملية التعذيب في منزل في ضواحي باريس على يد الجنرال محمد أوفقير ودفنه في ضواحي باريس أو تذويب جثته في الأسيد.
-رواية اغتياله في منزل في ضواحي باريس وفصل الرأس عن الجثة وتقديم الرأس الى الملك الحسن الثاني. وهذا النوع من القتل بتقطيع الرأس يعتبر انتقاما على شاكلة الانتقام الذي كان ينفذه المخزن في الماضي بقطع الرؤوسمعارضيه وتعليقها وعرضها على أبواب المدن.
-رواية اسبانية غير معروفة لمسؤول دبلوماسي-استخباراتي اسباني عمل في المغرب في الستينات، خوسي ماريا دي سوتو مايور ويؤكد أن الطائرة التي كانت تحمل المهدي بن بركة ليلة-فجر 30 أكتوبر 1965 سقطت بالقرب من مياه أصيلا قادمة من باريس حيث ترقد جثة المهدي في قاع البحر. وهذه الرواية غير معروفة وغير منتشرة ضمن روايات اغتيال المهدي بن بركة.
وتتعدد الروايات والكتب التي صدرت حول مصير المهدي بن بركة والتي تجاوزت العشرة حتى الآن علاوة على فيلم سينمائي. وتبقى الوقائع المعروفة حتى الآن هي تعرض الزعيم اليسار لعملية اغتيال واختفاء الجثة. وإذا كانت الجثة غير رئيسية خاصة بعد مرور خمسة عقود، يبقى اللغز الكبير هو مدى تورط جهات دولية في عملية الاغتيال واقتصار الاتهام على المؤسسة الملكية فقط والتي ليست بريئة بالمرة.
وقراءة مختلف الكتب التي صدرت عن المهدي بن بركة والأخذ بعين الاعتبار الظروف السياسية والأمنية الدولية التي تحكمت في الستينات من القرن العشرين لا يمكن نهائيا اعتبار عملية اختطاف المهدي بن بركة عملية مغربية محضة وبالتالي اقتصار الاتهام على مسؤولين مغاربة وحدهم بل المغاربة وأطراف دولية. فالقضاء الفرنسي يستمر في التحقيق، وكان قد أصدر سنة 2007 مذكرة اعتقال في حق عدد من المسؤولين المغاربة من ضمنهم الجنرال حسني بن سليمان، المدير الحالي للدرك الملكي والذي تلقى ليلة اختطاف هذا المعارض مكالمة من باريس خلال اشتغاله في القصر الملكي.
الدولة الفرنسية حتى الآن ترفض الكشف عن الملف الكامل للمهدي بن بركة، والمخابرات الأمريكية ترفض بدورها الكشف عن ملف المهدي بن بركة، والمخابرات الإسبانية تتجنب الكشف عن ملف المهدي بن بركة. وتتوفر معظم مخابرات الدول الغربية وروسيا على ملف حول المهدي بن بركة، ويجري التركيز على فرنسا والمغرب دون غيرهما.
وفي عرف المخابرات الدولية عندما تتفق أطراف متعددة على رفض رفع السرية عن ملف معين يعني تورط جهات دولية متعددة، وفي الوقت ذاته تعني عملية الكشف الإضرار بسمعة مسؤولين مازالوا على قيد الحياة وقد يتسبب الأمر في حرج كبير لهم ولعائلاتهم وربما الملاحقة القضائية بما فيها ضد دولتهم.
ويمكن تقديم أمثلة عن عشرات الملفات لا يتم رفع السرية عنها في الوقت الراهن، ونقتصر على ملفين، الملف الأولى هو ملف الرئيس الأمريكي جون كنيدي حيث من المنتظر رفع السرية التامة في الستينات، بمعنى بعد مرور أكثر من قرن، مدة زمنية كافية لعدم إحراج أي دولة أو أي مسؤول، بينما تم في الوقت الراهن رفع السرية عن ملفات ثانوية حول مقتل هذا الرئيس.
والملف الثاني هو ما يعرف ب “الجيش السري للحلف الأطلسي” وهي مليشيات مرتبطة بجهات عسكرية في الحلف الأطلسي نفذت عمليات إرهابية في دول غربية لتحول دون وصول الأحزاب الشيوعية الى الحكم. ويجد قضاء بعد الدول ومنها بلجيكا صعوبة في التحقيق لأنه يصطدم بالمؤسسة العسكرية، وكانت بلجيكا مسرحا لبعض العمليات الإرهابية، كما ترفض مختلف المخابرات وخاصة العسكرية منها فتح أرشيفاتها تحت يافطة “الأمن القومي للبلاد”.
ولا يمكن فصل اغتيال المهدي بن بركة عن الاغتيالات الشهيرة الأخرى التي وقعت في الخمسينات والستينات سواء العلنية منها أو تلك التي تسمر لغزا. وكل هذه الاغتيالات كانت مرتبطة أشد الارتباط بالحرب الباردة وأشرفت عليها جماعات سرية مرتبطة مباشرة بالاستخبارات العسكرية أكثر من الاستخبارات المدنية.
وإذا كانت الاستخبارات المدنية مثل سي أي إي تكشف عن ملفاتها لأن مديرها يصادق عليه الكونغرس، فالإستخبارات العسكرية مثل استخبارات الدفاع دي أي إيه الأمريكية لا تكشف نهائيا عن ملفاتها، علما أن الأخيرة أكثر تطورا وأكثر تحكما في السياسة الخارجية والداخلية لواشنطن من سي أي إيه. وبالتالي، لا أحد يتحدث عن ملف المهدي بن بركة عند الاستخبارات العسكرية الأمريكية والفرنسية والبريطانية ضمن أخرى والتي كانت قلقة منه بسبب مواقفه من القواعد العسكرية الأمريكية في المغرب.
وإذا كان الملك الراحل أكبر المستفيدين من غياب المهدي بن بركة، فأطراف دولية كانت ترغب في تغييبه من الساحة الدولية بحكم طموحه لبناء قطب يساري قوي من خلال مؤتمر القارات الثلاث الذي كان مرتقبا في كوبا سنة 1966.
وهذه الأطراف هي: الولايات المتحدة التي كانت قلقة من تنسيق بن بركة بين حركات تحرر عالمية مما سيعطيه مكانة ستزيد من فرصه بالإطاحة بالملكية في المغرب بعد إعلانه برنامج “الاختيار الثوري”، علما أن المغرب كان منطقة حساسة استراتيجيا للبنتاغون بسبب القواعد العسكرية، وكل تغيير سيعني سقوط المغرب في المعسكر الشرقي وقتها. وكان الصحفي بوب وودورز قد أورد في كتابه “الحروب السرية للمخابرات الأمريكية” كيف أن بعض الدول ومنها المغرب كان شأنا عسكريا للبنتاغون أكثر منه ل سي أي إيه.
قلق فرنسي حقيقي في وقت كانت فيه أطراف عسكرية واستخباراتية غير خاضعة للرئيس شارل دوغول تتخوف فيه على مكانة فرنسا بسبب تحرر معظم مستعمراتها وخاصة بعد استقلال الجزائر.
في الخمسنيات حتى منتصف السبعينات، كان الأجهزة العسكرية الغربية لا تتردد في اغتيال مختلف الشخصيات التي كانت تشكل خطرا، وقد تشارك مباشرة في الاغتيال أو عبر أطراف ثالثة. وعلى ضوء هذا، لا يمكن فصل اختطاف ومقتل المهدي بن بركة عن قرارات الاستخبارات العسكرية الغربية بتغييب كل مصدر للخطر، فقد جرى القضاء على تشي غيفارا وعلى باتريس لوبومبا وعلى مالوم إكس وعلى رئيس التشيلي أليندي وعشرات الآخرين بعضهم مشهور وبعضهم غير معروف عالميا.
فاغتيال المهدي بن بركة هو هدف التقت حوله المؤسسة الملكية المغربية ومصالح المؤسسات الاستخباراتية العسكرية في الغرب خلال الحرب الباردة.