يعيش المشهد الإعلامي في المغرب جدلا بشأن قانون الصحافة والنشر الجديد وينصب النقاش حول جوانب متعددة منها التمويل المالي والعقوبات السالبة للحريات والتضييق عليها. ويرتكز النقاش أساسا على الصحافة الرقميةـ وتهدف الكثير من جوانب القانون الى وضع سياج حول قضايا معينة في البلاد تحت مسمى “المقدسات” أو بعبارة أخرى وضع سيف دومقليس على رؤوس الصحفيين وخاصة في المجال الرقمي.
قانون الصحافة الجديد وما يتضمنه من عقوبات قد يكون عاديا للغاية، لكن في بلد مثل المغرب حيث مئات القضاة يطالبون باستقلال القضاء عن الدولة المغربية، وفي بلد مثل المغرب ترسم التقارير الدولية الحقوية صورة رمادية تميل للسواد في معالجتها للردة الحقوقية، وفي بلد مثل المغرب حيث “الانتقائية العالية” في ملاحقة الصحفيين والتغاضي عن آخرين جعلوا من السب والقذف شعارا لهم، فالأمر غير عادي للغاية.
وعمليا، وضع المغرب سياسيا وحقوقيا هو نتاج بيئته، هو نتاج البيئة العربية التي ترى في وسائل الاعلام خطرا يهددها. ولخص عميد الصحفيين المغاربة مصطفى العلوي صاحب “الأسبوع الصحفي” ذلك في تعبير رمزي في ندوة نظمتها جريدة هسبريس الرقمية الأسبوع الماضي بقوله “الدولة تتعامل مع الصحفيين كأنهم قطاع طرق”. توفيق بوعشرين مدير أخبار اليوم بدوره قال في الندوة نفسها “القضاء المغربي يرتكب مجازر في حق الصحافة”.
مثل باقي الصحفيين، اطلعت على القانون الجديد، وما هالني فيه هو سعي المشرفين عليه التحكم في الصحافة الرقمية بطريقة أو أخرى، وهذا التحكم يعني محاولة التحكم في شبكة الإنترنت بدل العمل على جعلها قاطرة للتنمية.
بعض بنود القانون الجديد للنشر وخاصة في الشق المتعلق بالصحافة الرقمية يذكّرنا بحادثة تاريخية جثمت في المغرب حقبة زمنية طويلة، ما بين القرن السادس عشر الى منتصف القرن التاسع عشر، يتعلق بإصرار سلاطين المغرب على منع دخول المطبعة الى البلاد. وتأويلا لبعض النصوص القرآنية، اعتبر السلاطين والفقهاء أو “الآلة الدينية” بأن المطبعة هي رجس من عمل الشيطان، وكان اجتنابها لقرون.
وكانت هناك محاولتان لإدخال المطبعة الى المغرب من طرف رجالات النظام في أواسط القرن التاسع عشر، ولم تنجح، فالنظام أحيانا لا يثق حتى في رجالاته. المحاولة الأولى صدرت عن السفير عبد الله الصفار الذي وقف على مزايا المطبعة في رحلته الى فرنسا سنة 1846، ونصح السلطات باقتناءها. وقام بالمحاولة الثانية إدريس العمراوي الذي كتب سنة 1860 بعد رحلته الى أوروبا:
“هذه الآلة التي اتخذوها للطبع، هي كـل للأمور عامة النفع، معينة على تكثير الكتب والعلوم، وأثرها في ذلك ظاهر معلوم، وقد اتخذوها في جميع بلاد الإسلام،و اغتبط بها مشاهير العلماء الأعلام، و يكفيك من شرفها و حسن موقعها، رخص الكتب التي تطبع بها، و قد اعتنوا بتصحيحها و بالغوا في تهذيبها و تنقيحها، مع جودة الخط و إيضاح الضبط … و نطلب الله بوجود مولانا أمير المؤمنين أن يكمل محاسن مغربنا بمثل هذه المطبعة، و يجعل في ميزان حسناته هذه المنفعة”.
لكن أمير المؤمنين في ذلك الزمان، رفض الترخيص للمطبعة في المغرب، فقد كانت رجس من عمل الشيطان.
وفي مغامرة حقيقية، قام القاضي القاضي محمد الطيب الروداني بشراء مطبعة من مصر وأدخلها الى المغرب 1864، ومن سوء حظه في البدء قامت العائلة العلوية الحاكمة والتي يطلق على سلطتها التقليدية “المخزن” بمصادرة المطبعة لتفشل أول مشروع لطبع الكتب، وكان يجب انتظار قرابة عقد ليتم طبع أول كتاب.
وبهذا، ساهمت السلطة المخزنية في تأويلها للدين وخوفا من انتشار الأفكار من حرمان انضمام المغرب لما يسميه الباحث الأكاديمي المرموق مارشال ماكلوهان “مجرة غوتنبرغ”، أي الطفرة النوعية في تاريخ البشرية التي أحدثتها غوتنبرغ باختراعه وتطويره المطبعة.
ومن المفارقات التاريخية بل من العار التاريخي أن دولة مثل المغرب لا يفصلها إلا مضيق جبل طارق عن القارة الأوروبية، مهد النهضة العلمية والتقدم خلال القرون الأخيرة، لا تتوفر على أي كتاب مطبوع في المغرب باللغة العربية قبل سنة 1870. وإذا أردنا فهم تأخر الشعوب ومنها المغرب، فنحن مطالبين بالعودة الى معرفة متى بدأ العمل بالمطبعة، فالمطبعة تعني نشر المعرفة، وبدون المعرفة لا يوجد تقدم.
سيناريو منع المطبعة يتكرر الآن مع الإنترنت في قانون الصحافة وتعاطي الدولة مع الصحافة الرقمية عموما من خلال إجراءات التضييق أكثر منها إجراءات التشجيع. الدول الواعية المؤمنة بقدراتها تعمل على جعل الإنترنت ووسائل الاعلام الرقمية قاطرة حقيقية ضمن أخرى للتنمية والتطور وتفادي التخلف عن الركب الرقمي. وتدرك أن الإنترنت تفتح البشرية على آفاق جديدة مثلما فعلت المطبعة عند ظهورها. ومن ضمن ما تقوم به الدول الواعية بعدما تحول الرقمي الى فضاء حاضر بقوة في حياتنا اليومية بفضل تقدم تكنلوجيا التواصل من هاتف نقال وطابليت وحاسوب شخصي هو تحويل وسائل الاعلام الى جامعة مفتوحة. ولهذا، تساهم في تمويل مقالات حول الفن والعلوم والثقافة عموما.
لكن في المغرب، تنشغل الدولة بكيفية مراقبة الإنترنت وكيفية التحكم في الصحافة الرقمية عبر الإشهار لمنعها من التعاطي مع مواضيع معينة تدخل ضمن ما يصطلح عليه “المقدسات”، وإذا لم تنجح، وقتها تلجأ الى قانون النشر، وأي قانون، قانون مليئ بالفخاخ المتحكم فيها عن بعد.
فالدولة المغربية ما زالت تتعاطى مع الإنترنت والصحافة الرقمية “رجس من عمل الشيطان”، فحادثة المطبعة تتكرر وبصورة كاريكاتورية في مغرب العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.