تحتضن العاصمة مدريد الأربعاء والخميس من الأسبوع الجاري قمة هامة بكل المقاييس لمنظمة شمال الحلف الأطلسي، وستحاول الإجابة على التحديات التي تطرحها روسيا على الأمن القومي الغربي بعد الحرب التي تشنها ضد أوكرانيا. غير أن الملفت هو استغلال إسبانيا للقمة في محاولة لإقناع الحلف بتوفير الحماية لسبتة ومليلية المحتلتين.
ويعيش العالم منذ ثلاث سنوات وضعا استثنائيا صعبا، وكانت البداية مع جائحة كوفيد-19 وتأثيراتها السلبية على الاقتصاد العالمي. ثم جاءت الحرب الروسية ضد أوكرانيا التي تعمل على صياغة التحالفات الدولية من جديد نحو عالم بقطبين وهما الصين-روسيا في مواجهة الغرب، في حين ستلعب دول أخرى بما فيها إقليمية مثل تركيا والبرازيل أدوارا ثانوية محدودة.
وعلاقة بهذه الحرب، تسعى إسبانيا الى استغلال الوضع واحتضانها قمة الحلف الأطلسي لكي تقنع هذه المنظومة العسكرية الغربية بدمج سبتة ومليلية تحت مظلة الحلف ووضع حد لمطالب المغرب باستعادة السيادة عليهما مستقبلا. وتؤكد جريدة الباييس الاثنين من الأسبوع الجاري، والجريدة هي المقربة من حكومة مدريد، تأمين التصور الجديد للحلف الأطلسي الحماية لمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين. في الوقت ذاته، تريد إسبانيا إقناع الحلف بالتدخل في حالة تهديد دولة ما بقطع إمدادات الطاقة، في إشارة إلى الجزائر، ثم توظيف الهجرة السرية، في إشارة إلى المغرب.
ويعد استعمار سبتة ومليلية من أقدم الملفات الاستعمارية في العالم. وكانت البداية مع استعمار البرتغال لسبتة سنة 1415 ثم استعمار إسبانيا لمليلية سنة 1497 ضمن ما يعرف “وصايا إيزابيلا الكاثوليكية” باستعمار الأراضي الإفريقية. وامتد الاستعمار الإسباني وقتها الى مناطق في الجزائر مثل وهران والمرسى الكبير وكذلك في تونس وهو الاستعمار الذي دام حتى القرن الثامن عشر في الجزائر وانتهى بسبب قيام الإمبراطورية العثمانية بالدفاع عن السواحل الجنوبية للمتوسط. ولكونه لم يشكل جزءا من الإمبراطورية العثمانية، بقي المغرب وحيدا في مواجهة الأطماع الأوروبية طيلة قرون، ومن أبرز عناوين هذا الاستعمار نجاح إسبانيا في احتلال طويل لسبتة ومليلية.
وعمليا، طيلة قرون والمغرب يصد الاستعمار الإسباني والأوروبي، لم يفتأ نهائيا عن شن هجمات بين الحين والآخر لاستعادة مدينتي سبتة ومليلية ومنها حصار المدينتين لسنوات طويلة. ويبرز كتاب “نزاع حضارتين، تاريخ حرب 400 سنة 1497-1927” للمؤرخ العسكري أنتونيو توريسياس فيلاسكو عشرات الحروب الصغيرة التي اندلعت بين البلدين نتيجة هجمات المغاربة لاستعادة المدينتين ثم حروب كبيرة أبرزها حرب تطوان سنة 1860.
وبعد استقلال المغرب سنة 1956، لم يفتأ المطالبة باستعادة المدينتين رغم الأولوية التي منحها لملف الصحراء. وكانت إسبانيا مستعدة لفتح حوار مع المغرب حول مستقبل المدينتين بما في ذلك اليمين والقيادة العسكرية إبان الانتقال الديمقراطي. ونهجت إسبانيا وخاصة حكومات الحزب الاشتراكي استراتيجية ذكية في تأييد استعمار المدينتين. في هذا الصدد، كان اليمين الإسباني يدافع عن المدينتين بدون اتخاذ إجراءات مستفزة للمغرب أو إجراءات تضفي الطابع الإسباني على المدينتين عكس الحزب الاشتراكي. وكانت البداية عبر ثلاث مراحل وهي:
في المقام الأول، منحت حكومة فيلبي غونثالث مدينتي سبتة ومليلية الحكم الذاتي سنة 1995 في وقت كان الاتفاق على عدم منحهما هذا النوع من الحكم. واعترف الملك الحسن الثاني لمقربيه بخيانة غونثالث له، ولهذا راهن على التصعيد الدبلوماسي. وقبلت مدريد بخلية ابن رشد كستار تمويهي لخلية التفكير التي طرحها الملك الراحل، لكن بدون جدوى. ونهج الملك استراتيجية استحضار ملف المدينتين كلما استحضرت إسبانيا مسألة تصفية الاستعمار في صخرة جبل طارق.
في المقام الثاني، كان يوجد عرف بعدم زيارة أي مسؤول إسباني الى سبتة ومليلية وخاصة الملك، غير أن زعيم الحزب الاشتراكي ورئيس الحكومة سنة 2007 خوسي لويس رودريغيث سبتيرو رخص للملك خوان كارلوس بزيارة المدينتين، ولم يقدم سلفه اليميني المحافظ خوسي ماريا أثنار على هذا الفعل. وكان رد فعل المغرب وعبر المؤسسة الملكية قويا في بيان اعتبر الزيارة استعمارية. وتعهد المغرب بشن أكبر حملة للتعريف بهذا الاستعمار ووضع خطة لاستعادة المدينتين.، لكن المغرب التزم بعد ذلك صمتا مطلقا في الملف يشبه البيات الشتوي سواء على مستوى الدولة أو الأحزاب.
في المقام الثالث، نهج رئيس حكومة إسبانيا الحالي، وهو الأمين العام للحزب الاشتراكي بيدرو سانشيس خطوة أخرى في هذه الاستراتيجية بدأت خلال مايو من السنة الماضية عندما اقتحم آلاف المغاربة سبتة كرد على موقف إسبانيا من نزاع الصحراء. وهذه الاستراتيجية تتجلى في تأييد مقترح الحكم الذاتي دون الاعتراف بمغربية الصحراء، ثم ربطه بضرورة قبول جبهة البوليساريو وتحت إشراف الأمم المتحدة. وفي المقابل، استغل هذا الوضع وطلب من المغرب عدم استعمال وصف المحتلتين في الحديث عن المدينتين وذلك سعيا وراء إقناع الحلف الأطلسي بتوفير الحماية للمدينتين. وبعدما حصل على اعتراف البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية باعتبار سبتة ومليلية أراض إسبانية خلال يونيو من السنة الماضية، ينتقل الآن الى إقناع الحلف الأطلسي بتوفير الحماية للمدينتين.
طيلة هذه المدة، منذ السنة الماضية الى الحادث المؤسف والمدان بمقتل 23 مهاجرا سريا في أسوار مليلية يوم الجمعة الماضية، كان سانشيس يشدد على “وحدة اسبانيا بما فيها سبتة ومليلية”. وتوجد مؤشرات على رغبته في الترشح الى الأمانة العامة للحلف الأطلسي لكي يعزز من موقع إسبانيا في الحلف بما في ذلك تعزيز الدفاع عن سبتة ومليلية.
وتوجد علامة استفهام كبيرة بشأن كيفية تصرف الحلف الأطلسي حول المطلب الإسباني. ويدرك الحلف مسبقا مطالب المغرب بالسيادة على المدينتين رغم الصمت الحالي. وارتباطا بهذا، لا يضمن الحلف الحماية لأراض متنازع عليها. لكن أمام صمت المغرب بشأن المدينتين، وتوظيف إسبانيا الاتحاد الأوروبي للاعتراف بإسبانية المدينتين، ثم تغير السياسيات الجيوسياسية، قد تحدث المفاجأة. في الوقت ذاته، يجهل كيف ستتصرف بريطانيا وهي التي تحتل صخرة جبل طارق، هل ستصمت مدريد حول السيادة على الصخرة مقابل تأييد بريطانيا السيادة الإسبانية على المدينتين في أفق ترتيبات مستقبلية في هذا الشأن؟ في الوقت ذاته، هل ستقبل الولايات المتحدة بمطالب إسبانيا لتخلق مستقبلا بؤرة توتر جديدة رغم صمت المغرب الحالي؟