صوّت الشعب الاسباني في الانتخابات الفارطة بكثافة على الحزب الشعبي اليميني، وحصل على أغلبية برلمانية غير مسبوقة في تاريخ الديموقراطية الاسبانية، وانتصار اليمين الشعبي كان منتظرا بفعل الأزمة الاقتصادية والمالية التي كانت تداعياتها قوية على اسبانيا.
في حوارات مع بعض القياديين في الحزب الشعبي فهمت أن الحزب كان متأهبا وواثقا من قدرته على مواجهة الأزمة، وكان يعرف أن اجراءات مواجهتها ستكون مؤلمة وستواجه مقاومة مهمة، لكن القيادة الحزبية كانت مطمئنة لنتائجها التي حسب تقدير رئيس الحكومة الاسبانية ماريانو راخوي Mariano Rajoy نفسه، ستنتهي بعودة الاقتصاد لحيويته، ولن يكون لها أثرا على الانتخابات المقبلة، بل أن الاحتمال أن تكون لنتائج هذه الاجراءات أثرا إيجابيا لصالح الحزب الشعبي.
احتمالات الحزب الشعبي لم تكن تضع في حسابها جبروت الازمة الاقتصادية، ولاعجز أغلب الاجراءات التقشفية في الحد منها، وبطئ استرجاع السوق لعافيته، كما لم تضع في الحسبان عناصر أخرى انفجرت في وجه أغلبية الحزب الشعبي المُريحة، والتي زادت من تعقيدات المشهد السياسي المتوتر بفعل الأزمة الخانقة والارتفاع المُهول للبطالة.
من العناصر القوية التي أججت الوضع السياسي المشتعل موضوع استقلال جهة كاطالونيا الذي أخد منحى غير مسبوق وخطير للغاية، والعنصر الثاني والقوي يتعلق باستمرارانفجار ملفات الفساد في وجه الحزب الشعبي والتي طالت رئيس الحكومة نفسه، والمتهم بتقاضي أجور إضافية من عمولات كان يجمعها محاسب الحزب سابقا لويس بارثيناس Luis Barcénas من صفقات عمومية تشرف عليها الحكومة الوطنية أو الحكومات الجهوية والبلديات التي يُسيطر عليها الحزب الشعبي.
المحاسب لويس بارثيناس يقبع حاليا في السجن الاحتياطي بتهم ثقيلة تتعلق بالفساد المالي، وبتقاضي العمولات والرشاوي بعد أن ضبطت التحقيقات حسابات للرجل في سويسرا ودول أخرى تفوق في مجملها 50 مليون دولار ، كما أن جريدة الموندو El Mundo الاسبانية نشرت بيانات مالية ونسخة من صفحات دفترحسابات سري للمحاسب المسجون، تكشف تورط ماريانو راخوي لما كان وزيرا في حكومة سابقه خوصي ماريا أثنار José Maria Aznar ، وأغلب الوزراء والقياديين في الحزب، بقبض أجور إضافية غير مُصرّح بها من حسابات سوداء وأموال تم جمعها بشكل غير قانوني.
المسار الذي أخده هذا الملف، واعترافات المحاسب لويس بارثيناس، واحتمال استدعاء الرئيس راخوي كمتهم في هذه القضية، أصبح يؤثر بشكل واضح على أداء الحكومة، كما توسعت رقعة الغضب ضد الحزب الشعبي ومؤاخدته على قساوة إجراءات التقشف لمواجة الأزمة، في حين تشير فيه التحقيقات إلى ملايين الدولارات المُهرّبة ب”علم” الحزب وقيادته إلى حسابات في الخارج.
الفضيحة دوّت هذه المرة بقوة، وعدد الغاضبين يتضاعف بشكل مُلفت، والتظاهرات تتوالى أمام مقرات الحزب الشعبي ويتزايد عددها، وبالاضافة إلى المعارضة التي طالبت بجلسة برلمانية لمساءلة رئيس الحكومة حول هذه الفضيحة، أحزاب أخرى طالبت مباشرة باستقالته،كما أن عناصر قيادية من حزب رئيس الحكومة وشخصيات وازنة من عالم المال تنصح بتقليص الخسائر بالتخلص من رئيس الحكومة الحالي واستبداله برئيس من نفس الحزب.
رجال المال من داخل وخارج اسبانيا وخبراء أهم البنوك الأوروبية يعتبرون أن هذه الفضيحة الأخيرة والتسريبات المُتّهمة لرئيس الحكومة ضربته في مقتل ، ومهما كانت النتائج لا يمكنه استعادة الشرعية المعنوية لمواصلة الاجراءات التقشفية، وأن الحل أن يبحث الحزب عن من يُعوّضه في رئاسة الحكومة وتلافي الانهيار أو الاضطرار لانتخابات سابقة لأوانها التي بدورها لن تزيد المشهد إلا تعقيدا.
البنك الألماني Deutsche Bank أصدر يوم الخميس الفارط تقريرا عن اسبانيا أشار فيه بوضوح إلى مايلي : ” ليس للحزب الشعبي في اسبانيا أكثر من اختيارين لتلافي انتخابات سابقة لأوانها, الأول التخلص من ماريانو راخوي وتعويضه برئيس جديد من الحزب لم تطاله اتهامات الفساد، أو أن يستمر راخوي في انتظار المآل القضائي لهذا الملف، لكن التأخير المنتظر في حسم هذا الملف قضائيا وتطوراته المحتملة ستؤثر سلباعلى سلطة الرئيس.”
بنوك أخرى من حجم الياباني نومورا Nomura، والأمريكي JP Morgan ، والبريطاني HSBC، أصدرت تقارير مشابهة تُنبه فيها لخطورة الوضعية في اسبانيا، وتدعو الحزب الشعبي الحاكم للإسراع بتغيير الرئيس راخوي تلافيا للأسوأ، كما أن أصوات من داخل الحزب بدأت تنتقد رفض رئيس الحكومة المثول أمام البرلمان لمناقشة هذا الملف ، وهي الخطوة الأولى نحو تحركات داخل الحزب والحكومة للبحث عن من يعوّض ماريانو راخوي.
في تقديري أن الحزب الشعبي سيضطر ولو بعد نهاية الموسم الصيفي إلى استبدال راخوي وتلافي انتخابات سابقة لأوانها ستُفقده لا محالة الأغلبية المطلقة التي يتمتع بها حاليا، وسبق لي أن أشرت في مقال للرأي مع انفجار هذا الملف منذ سنة، أن الشخصية الوحيدة التي لم يرد اسمها في لوائح المحاسب بارثيناس و لا في سابقاتها، هو وزير العدل الحالي ورئيس جهة مدريد وعمدة مدريد سابقا ألبرتو رويث غاجاردون Alberto Luis Gallardon.
مصادر من داخل الحزب الشعبي وبالخصوص من المحيطين برئيسة الحزب في مدريد إسبيرانسا أغيريEsperanza Aguirre، يتهمون في الكواليس وقوف وزير العدل وراء تفجير هذه الفضيحة بهدف تعبيد الطريق لوصوله إلى رئاسة الحكومة، ودليلهم هي تسريبات لوائح المستفيدين التي لم تضم اسم وزير العدل رغم أنه كان عضوا قياديا في الحزب في تلك الفترة.
المؤشرات تؤكد أن تداعيات هذا الملف تتوسع وتتضاعف وتستقطب المزيد من الغاضبين الذين يحاصرون مقرات الحزب ومساكن قياداته، وتقارير البنوك المشار إليها سابقا لا تترك مجالا للشك أن التخلص من رئيس الحكومة أصبح مسألة وقت.