كذّب وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، أمس الأول من الجزائر، انتشار قوات خاصة جزائرية وفرنسية وأمريكية بجنوب ليبيا لمطاردة إسلاميي ما يسمى القاعدة في المغرب الإسلامي.
اشترك في تكذيب الخبر، وزير الخارجية الجزائري رمطان العمامرة. لكن ما يهمّ هنا هو الوزير الفرنسي، لأن المسؤولين الجزائريين، نفوا أو أكدوا سيّان، الثقة فيهم منعدمة.
الخبر أوردته صحيفة «تايمز» البريطانية في الثلاثين من الشهر الماضي، مستندة إلى مصادرها. ثم أوردته صحيفة «الوطن» الجزائرية الناطقة بالفرنسية، بعد أسبوع، فقالت أن القوات الجزائرية منتشرة في غرب ليبيا.
عندما يكذّب مسؤول فرنسي خبرا يتعلق بالجزائر والساحل والتعاون الأمني السريِّ، فتلك إشارة على أن الخبر صحيح، أو أقرب إلى الصحة، بسبب حساسية الموضوع وحساسية العلاقات مع الجزائر. فقد سبق لمسؤولين فرنسيين أن كذّبوا، للجزائريين، سماح الرئيس بوتفليقة (لأنَّ لا كلمة أو وزن للحكومة ومؤسسات الدولة الأخرى هنا) بعبور الطيران الحربي الفرنسي أجواء الجزائر لشن غارات وإنزال مؤونة في شمال مالي، قبل سنة ونصف.
ولأن الديمقراطية الفرنسية ستحاسب، يوما ما، المسؤول الفرنسي إن كذب على شعبه، لا مانع أن يكذب القادة الفرنسيون على الجزائريين. لكنهم اضطروا، في ثنايا شرح عملية مالي، أن يعترفوا لشعبهم بأن الجزائر سمحت لمقاتلاتهم بعبور أجوائها. هكذا وضعوا حداً لإشاعة اصطنعتها أوساط جزائرية ادّعت أن الطيران الحربي الفرنسي حلق فوق المغرب.
بعد سنوات أو شهور، قد تطول كثيرا أو لا تطول، سيكشف مسؤول فرنسي أو غربي ما، أن قوات جزائرية شاركت في عمليات ميدانية داخل الأراضي الليبية، ويتضح أن فابيوس لم يكن صادقا مع الجزائريين في تصريحه يوم 8 حزيران /يونيو 2014.
يكشف هذا الواقع مأزق الدبلوماسية الجزائرية. فهي سجينة عقيدة رومانسية أكل عليها الدهر وشرب.. عقيدة عدم التدخل في شؤون الآخرين، والحياد في الصراعات ومساندة المظلومين. رغم أن التدخل في شؤون الغير أصبح في بعض الأحيان ضرورة أمن قومي، والحياد هروب، والظالم المظلوم مفاهيم نسبية متغيّرة بحسب الظروف والمواقف.
سمتا نظام الحكم الجزائري، المنعكستان على دبلوماسيته، هي الصمت والبطء. الصمت لجعل الحساب والمساءلة أبعد ما تكون. والبطء خوفا من الخطأ ومن ردود الفعل، وبسبب صعوبة اتخاذ القرار. لو كان للجزائر موقف صريح، معلن وسريع مما حدث في ليبيا منذ 2011، لأصبح هامش مناورتها اليوم أفضل وأوضح. ولو لم تتأخر في التفاوض مع صندوق النقد الدولي منذ 1991، لفاوضته في 1994 في ظروف أفضل وكانت الكلفة أقل.
هناك إشكاليتان مطروحتان أمام الدبلوماسية الجزائرية الآن: الأولى، صعوبة تقبل الحاجة للتدخل في وضع كالوضع الليبي إذا ما فرض نفسه. والثانية، امتلاك شجاعة إعلانه للرأي العام المحلي والدولي، وتحمل مسؤوليته وتبعاته إن وُجدت.
هناك أسوأ: مأزق الدبلوماسية الجزائرية، ومن ورائها أجهزة الدولة ككل، أنها ليست سيدة قراراتها، وهامش مناورتها يضيق شيئا فشيئا حتى عند حدودها. ذلك أن الخطر، في حالة ليبيا، متشابك وعابر للحدود، يفرض أساليب معالجة متشابكة وعابرة للحدود.
نفترض أن الجزائر، مدفوعة برومانسيتها البائدة، قالت لا لنشر قوة فرنسية أو أمريكية على شريطها الحدودي مع ليبيا. في أبسط الأحوال سيفسر الأمر بأنه عدم تعاون في محاربة الإرهاب وتنظيم القاعدة. وسيتبع ذلك ثمن يتحتم دفعه بشكل ما، عاجلا أم آجلا.
تعاني الدبلوماسية الجزائرية مما يشبه حالة انفصام بين الموجود والمـُعلن. يذكر وزير خارجية ليبيا الأسبق عبد الرحمن شلقم أنه تحدث للرئيس بوتفليقة، في 2001، فنصحه الأخير بأن يقترح على معمر القذافي التخلص من برنامج أسلحة الدمار الشامل لأن الرئيس جورج بوش الإبن مصرّ على تدميرها هو شخصيا. يقول شلقم للرئيس الجزائري: اقترحت هذا على معمر فاتهمني بالجبن. رد بوتفليقة: بلّغ معمر أن لديك شقيقاً في الجبن والخوف هو عبد العزيز بوتفليقة.
في أدبيات الدبلوماسية الجزائرية، لا يوجد شيء اسمه الجبن. لكنه في الواقع موجود. ويفيد هذا المثال في التدليل على أن الدبلوماسية الجزائرية مدركة للواقع الصعب ولضعف اليد، لكنها لا تقر بذلك لأنها مشدودة إلى الماضي.
في حالة ليبيا، دائما، هناك فرنسا والولايات المتحدة بالدرجة الأولى، ثم الحكومات الغربية بدرجة أقل. هذه الدول، في حالة انتصارها على تنظيم القاعدة، تكون قد فعلت لصالح نفسها ومصالحها، ولصالح دول مثل الجزائر. لكن قبل ذلك، هي دول تعتبر أن نجاح مهمتها يحتاج إلى إشراك دول مجاورة مثل الجزائر ومصر، باعتبار الأرض أرضهما.
الجزائر تمتلك أكثر من حجة وسبب للتدخل دبلوماسيا وعسكريا في ليبيا. هي أولاً محاطة بحرائق من كل الجهات، أخطرها في ليبيا. وأنْ تتدخل برفقة أمريكا وفرنسا، أفضل لها من عمل منفرد.
على الجزائر أيضا أن تدفع ثمن تباهيها سنوات طويلة بأنها صاحبة خبرة وكفاءة نادرة في محاربة الإرهاب. طيِّب تفضلوا.. أرونا قليلا مما عندكم، سيقول الفرنسيون والأمريكيون.
يقول أكثر من مصدر أن حال الدبلوماسية الجزائرية اليوم في حالة انكفاء، لأن الرئيس بوتفليقة استحوذ على ملفاتها. والرجل مهموم بصحته ومستقبله أكثر من أي شيء آخر.
لكن تلك قصة أخرى.
توفيق رباحي كاتب وصحفي من الجزائر