تطرح قضية “الجنس مقابل النقط” في المغرب، مسألة تغيّر منظومة القيم داخل المجتمع في المغرب، فقد هزّت سلسلة من فضائح التحرّش الجنسي هيبة الجامعات المغربية في الأسابيع الأخيرة، وأثارت القضايا المثارة ضجةً على وسائل التواصل الاجتماعي، ما دفع الدولة إلى التحرّك لإصدار قرارات تأديبية في انتظار المحاكمات، ناهيك عن الإدانات التي صدرت عبر وسائط التواصل الاجتماعي. ويتعلق الأمر بمقايضة مدرّسين، في جامعة مغربية ومدرسة عليا، درجات جيدة مقابل خدمات جنسية من طالبات كسرن حاجز الصمت، ما حمل الوزارة على اتخاذ قرارات تأديبية في حق مسؤولين جامعيين، وتحرّك الدولة لإجراء محاكماتٍ ينتظرها (حتى الآن) أربعة أساتذة جامعيين يوجدون في حالة اعتقال بتهم ابتزاز طالباتهن، بما أصبح يطلق عليه في وسائل الإعلام المغربية فضيحة “الجنس مقابل النقط”، أي مطالبة طالباتهن بتلبية رغباتهم الجنسية مقابل منحهن علامات إيجابية.
وعلى الرغم من أن ظاهرة التحرّش والابتزاز الجنسي منتشرة في المغرب، وسبق أن شهدتها جامعات مغربية في السنوات الأخيرة، إلا أن حجم الظاهرة، فيما يبدو، تضخّم أكثر مما هو معروف، واستشرى حتى داخل الحرم الجامعي المفروض فيه إنتاج القيم التي تؤطّر سلوك الناس داخل المجتمع، وتصونها وتحميها من كل أنواع التشويه التي قد تلحق بها، حيث أصبح يصدُق عليها المثل الشعبي “حاميها حراميها”. ما تنبهنا إليه هذه القضية التي شكّلت حالة صدمة داخل أوساط النخبة، لأنها مسّت صرح الجامعة التي يُفترض أنها الحريصة على صيانة القيم الجماعية وحمايتها، أن المجتمع المغربي يعيش أزمة قيم حقيقية وعميقة. وعلى الرغم من أن هذا الأمر ليس جديدا، إلا أن ظاهرة التحرّش الجنسي، القديمة الجديدة داخل المجتمع المغربي، تدعونا إلى الالتفات إلى القيم التي باتت تحكُم حياتنا المجتمعية اليوم وإعادة النظر فيها، على اعتبار أن القيم ليست دائما ثابتة، خصوصا في سياق ما تعرفه حياتنا من تحوّلات وتقلبات متسارعة، وليست بالضرورة دائما كلها إيجابية.
وليس خافيا على الدارسين في علم الاجتماع أن القيم تكون مرتبطةً بالمرجعيات الجماعية لكل مجتمعٍ، متمثلة في الدين والتقاليد والأعراف، وتتأثر بطبيعة النظام السياسي وبالتحوّلات الاجتماعية والاقتصادية، وبالمشروع المجتمعي الجماعي بصفة عامة. وانهيار هذه القيم هو عنوان على انحدار المجتمعات أو دخولها في أزمات، بما أن القيم تعمل في منطقة معيارية، بمثابة لوحة قيادة، لتوجيه السلوك والممارسات الجماعية والفردية داخل مجتمع معين.
وبالنظر إلى الانعكاسات السلبية لهذه الظاهرة على القيم التي تؤطّر المجتمع المغربي، فهي تقود إلى البحث عن أسباب تدهور هذه القيم، وهي كثيرة، لكن المقالة هنا تقف عند أهمها، لأنها هي الأساسية، وأولها وأصلها مرتبط بطبيعة النظام السياسي القائم على الاستبداد والفساد وقمع الحريات، بما أنه ساهم في تمييع الحياة السياسية والتحكّم فيها من خلال عدم السماح لإرادة الشعب بالتعبير الحقيقي عن مصيرها والتحكّم في قرارها لصياغة مستقبلها، وشجّع على سياسة الإفلات من العقاب التي ساهمت في تنامي الفساد وتصدّر المفسدين المجال العام في كل المجالات العمومية. وتأتي المنظومة التعليمية في الدرجة الثانية، من حيث المسؤولية عن تدهور القيم داخل المجتمع المغربي، وذلك بسبب نهج سياساتٍ تعليمية فاشلة طوال العقدين الماضيين، قتلت الفكر النقدي عند الناشئة، وكرّست في المقابل فكرة الخنوع من أجل الوصول إلى تحقيق الغايات، وكانت نتيجتها تفريخ الجامعات والمعاهد العليا أشباه متعلمين، وتزايد جيوش الأطفال الذين يغادرون المدرسة سنويا من دون أن يُنهوا دراستهم الإعدادية، ويغرقون سوق شغل بلا ضوابط ولا قيم، ما شجّع على تفشّي أنواع متعدّدة من السلوك الشاذّ والخارج عن القانون، من ابتزاز واستغلال وانتهاك للحقوق والواجبات. كما أن تشجيع الدولة اختزال الدين في الشعائر والعبادات، حتى حوّله إلى مجرّد طقوس وعادات مظهرية مجتمعية، وأفرغه من كل ما هو عقائدي يملأ النفس ويشكل وجدان الفكر ويرسم طريقة الحياة، ساهم، إلى حد كبير، في تنامي قيمٍ بلا مرجعيات دينية أو روحية. ولعب الإعلام، خصوصا الرسمي منه وشبه الرسمي المسنود من الدولة وأجهزتها، دورا حاسما في تسريع نشر قيم التفاهة والوصولية والنجومية الزائفة، وتدنّي الوعي الفكري والنقدي عند المتلقين، وساهمت السلطات في تغذية مستنقعات التفاهة هذه، عبر سياساتٍ عموميةٍ مدروسة، من خلال توجيه الإعلام الرسمي والتحكّم في سوق الإعلانات التي تعتبر مصدر دخل الإعلام المستقل، ما ساعد على تشجيع التفاهة بكل أشكالها القبيحة في إعلام الفضائح والجرائم ومواقع التواصل الاجتماعي التي تنشر ثقافة التسطيح والتتفيه.
يضاف إلى ذلك بروز ما يمكن أن يطلق عليه نوعا من الفردانية المشوهة، بما أن النزعة الفردانية في المجتمعات الغربية تقوم على إعطاء الحرية والحقوق الفردية أهمية تتفوّق على أيّ قيمةٍ أخرى، إلا أن الظاهرة الفردانية التي نمت في المغرب خلال العقدين الماضيين تقوم على إعطاء الأولوية لأغراض (وغايات) الفرد المسموح له بسلوك كل السبل التي تسهّل (وتسرّع) اكتسابه مصالحه أولا، حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة العامة للمجتمع والدولة، وهو ما يزكّي تفشّي ظواهر الغش والفساد والرشوة والوصولية والانتهازية والابتزاز والاستغلال والسرقة بكل أنواعها، ما دامت كلها تؤدّي إلى تثمين القيمة المعنوية للفرد.
هذا غيض من فيض الأسباب التي تستحق دراسة سوسيولوجية متأنية، لسبر مدى التحوّلات التي ضربت القيم المجتمعية في الصميم، وباتت تفرز ظواهر شاذّة. والخوف اليوم أن تتحوّل إلى قيم معيارية داخل مجتمع نخرته الوصولية والانتهازية أكثر مما فعل فيه الفساد والاستبداد، الراعي الأول والأساسي لهذه المنظومة الهدامة. ولعل انفجار هذه الفضائح دفعة واحدة بمثابة دقّ ناقوس الخطر قبل انهيار الهيكل، والتحوّل إلى مجتمع فاشل تحكمه الأهواء والغرائز، وتتحكّم فيه الأنانيات المفرطة في النرجسية وحب التملك وسرعته على حساب القيم والأخلاق والمبادئ.