شكلت إقالة مدير المخابرات الجزائرية توفيق مدين مناسبة لإلقاء الضوء على تولي مسؤولين مراكز أمنية حساسة للغاية لسنوات طويلة وقد تمتد عقودا. .وتعتبر منطقة المغرب العربي من الدول التي تحتفظ بأرقام قياسية حيث يوجد في المغرب أقدم مدير في العالم يرأس جهازا أمنيا وهو الجنرال حسني بنسليمان الذي يتولى تسيير الدرك الملكي منذ سنة 1972. وهذه المدة جعلته يفشل في ملفات وينجح في أخرى ويصبح هدفا للقضاء الدولي ومنه القضاء الإسباني الذي يريد محاكمته علاوة على القضاء الفرنسي.
وعمّر توفيق مدين في جهاز المخابرات منذ سنة 1990 الى الأسبوع الماضي، ربع قرن بالتام والكمال وهو يشرف على جهاز حساس للغاية. ويعتبر استمرار مسؤولين على رأس أجهزة أمنية من سمات الدول التي تفتقر الى الديمقراطية، حيث يتحول المسؤول الى مثابة رئيس أو ملك في الظل. وكان يسمى توفيق مدين بصانع الرؤساء في الجزائر . ولهذا، شكلت إقالة مدير المخابرات مدين حدثا وطنيا في الجزائر ودوليا كذلك أسال الكثير من المداد والتحاليل والتأويلات وصل الى مستوى شبيه بوقوع انقلاب أو إقالة رئيس دولة.
وكان الربيع العربي قد بدأ بوضع حد ليس فقط لرؤساء عمروا كثيرا في كرسي السلطة مثل العقيد الليبي معمر القذافي أو حسني مبارك في مصر وعبد الله صالح في اليمن بل كذلك لمسؤولي الأمن والاستخبارات والمؤسسة العسكرية في هذه الدول ودول عربية أخرى مع استثناءات.
وينفرد المغرب بأقدم مسؤول أمني يستمر على رأس جهاز حساس ليس فقط في العالم العربي بل وكذلك في العالم بأجمعه ويتعلق بالجنرال حسني بنسليمان مدير جهاز الدرك الملكي. ويشغل هذا المسؤول رئاسة الجهاز منذ سنة 1972 عندما عينه الملك الراحل الحسن الثاني في المنصب بعد الانقلاب العسكري الفاشل في السنة نفسها ليتولى مراقبة الجيش. وكان مجموعة من العسكريين بقيادة الجنرال أوفقير قد شنوا هجوما على طائرة الملك الحسن الثاني وهي عائدة من اسبانيا، ونجت الطائرة رغم تعرضها للقصف.
ومن خلال استعراض القدس العربي لمناصب المسؤولين في مختلف دول العالم يشغلون مراكز أمنية حساسة بما فيها دول مثل كوريا الشمالية والصين وروسيا يتبين أن الجنرال بنسليمان المولود سنة 1935 وحصل على تكوينه الأمني في فرنسا هو الأقدم في العالم، يوجد على رأس الجهاز منذ 45 سنة، ويقترب من نصف قرن. متجاوزا بهذا المدير الأسطوري للإف بي أي الأمريكية إدوارد هوفر الذ شغل المناصب لمدة 37 سنة منذ 1935، تاريخ تأسيس الجهاز الى 1972 تاريخ وفاة هذا المدير.
واعتادت الدول الديمقراطية أو في طريق الديمقراطية تفادي تولي مسؤولين مناصب أمنية لمدة تفوق عشر سنوات، وذلك لسببين، الأول وهو تشبيب الأجهزة بإطارات جديدة تستوعب التحديات الأمنية والاستخباراتية بشكل أكثر فعالية وتبدع في هذا المجال. ويتجلى السبب الثاني في تفادي وقوع حالات فساد وخروقات حقوق الإنسان وانتشار الزبونية في الأجهزة الأمنية. ولهذا من الصعب العثور على مدراء أمن عمروا في دول الغرب مثل فرنسا واسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة كثيرا من الزمن في مناصبهم. وكانت حالة هوفر هي الأخيرة، فبمجرد وفاته، جرى إصدار قانون في الولايات المتحدة يحدد فترة شغل رئاسة أي منصب أمني وعسكري.
ولا يشد الجنرال حسني بنسليمان عن هذه القاعدة العربية السلبية. فإضافة الى الرتب العسكرية التي راكمها وتجعل منه أكبر جنرال في المغرب حاليا والثاني من حيث الترتيب في تاريخ المؤسسة العسكرية والأمنية المغربية بعد الماريشال أمزيان في الستينات. فهو يراكم كذلك شبهات واتهامات متعددة في المجال المالي وفي المجال الحقوقي.
وعلاقة بهذا، فمن جهة، يتابعه القضاء الفرنسي في ملفات لحقوق الإنسان منها ملف اغتيال شهيد اليسار المغربي المهدي بن بركة، حيث كان قد أصدر مذكرة اعتقال دولية في حقه وتم إلغاءها لاحقا، والملف الثاني هو خروقات الصحراء حيث يتابعه القضاء الإسباني منذ سنوات. وكانت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان قد طالبت سنة 2000 بمحاكمته على جرائم مفترضة ارتكبها. وكان شباب حركة 20 فبراير إبان اندلاع الربيع العربي قد رفعوا صوره ضمن آخرين مطالبين برحيله.
ومن جهة أخرى، جاء اسمه في ملفات الفساد المالي بالانفراد برخص الصيد البحري في أعالي البحار رغم أن صفته العسكرية تمنع عنه مزاولة أي نشاط تجاري حفاظا على هيبة المنصب الأمني، لكنه شان الكثير من الجنيرالات في المغرب ارتمى في وقت من الأوقات في التجارة.
ورغم أنه يرأس جهازا لا يعتبر سياسيا على الأقل ظاهريا، أي ليس بالمخابرات، فهذا الجنرال يبتعد عن الأضواء ولا يدلي بتصريحات نهائيا.
ويعتبر هذا الجنرال محوريا في معظم الكتب التي تصدر في الخارج حول المغرب فقد شارك في المثير من القرارات السرية خلال الثلاثين سنة الأخيرة. وكان الضابط محجوب الطبجي قد أصدر كتابا بعنوان “ضباط صاحب الجلالة” في فرنسا يتحدث فيه عن مركزية هذا الجنرال في الأمن والسياسة في المغرب ودوره الميكيافيلي سياسيا وأمنيا. وكان الطبجي مدير ديوان الجنرال أحمد الدليمي الذي مات في ظروف غامضة سنة 1983 وكان المسؤول الأمني والعسكري الأول في المغرب منذ سنة 1972 الى وفاته الغامضة.
وتتولى مؤسسة الدرك الملكي مراقبة الجيش وكذلك توفير الحراسة الجوية للملك محمد السادس في سفره في المغرب وحراسة القصور علاوة على دورها الرئيسي في تدبير الشؤون الأمنية للمجال قروي. ونجح بنسليمان في محاربة الهجرة السرية ولكن بتنسيق مع أجهزة أخرى مثل القوات المساعدة. ولكنه فشل في مكافحة المخدرات، حيث تحول هذا البلد في ظل إشرافه على المجال القروي الى أكبر منتج لمخدر القنب الهندي في العالم. ولم يكن المغرب يشهد إنتاجا كبيرا للمخدرات، لكنه ابتداء من بداية الثمانينات بدأ يحقق أرقاما بوأته المكانة السلبية عالميا.
وجرى الحديث في مناسبات عديدة عن إقالته خاصة بعدما بلغ عقده الثامن، كما جرى الحديث عن جنيرالات سيخلفونه في المنصب، وكان آخرهم الجنيرال المختار صممم، لكن كلما يتم الحديث عن جنيرال للخلافة يتم إعفاءه أو تجميده.
ومازال الملك محمد السادس متشبثا ببنسليمان وجاعلا منه أقدم مدير في العالم يسير جهازا أمنيا. إنه رقم قياسي على المستوى العالمي. إنه رقم قياسي على المستوى العالمي، فالمسؤولون العرب يحطمون أرقاما قياسية من هذا النوع، البقاء في السلطة والخروقات والفساد!