عن دار النشر فيارد، صدر كتاب جديد عن السياسة الفرنسية تجاه العالم العربي بعنوان “الجمهورية الخامسة والعالم العربي” لمؤلفه إنياس دال الذي عمل مراسلا صحفيا في عدد من العواصم العربية، ويحاول من خلال هذا الكتاب رصد أهم وأبرز العوامل المتحكمة في الدبلوماسية الفرنسية تجاه العالم العربي منذ الخمسينات حتى الوقت الراهن.
ويضيف الكاتب هذا المؤلف الجديد الى قائمة مؤلفاته حول العالم العربي وهي “باسم فلسطين” سنة 1975، و”سوريا جنرال الأسد” سنة 1991 و”الحسن الثاني والأمل المنكسر” سنة 2001 و”أوروبي عند الأتراك” ضمن مؤلفات أخرى.
ويبرز المؤلف مركزية العالم العربي في حياة الفرنسيين لأسباب تاريخية مثل الاستعمار والقرب الجغرافي والعمق التاريخي حيث يكشف كيف أنشأ الفاتيكان في القرن الثالث عشر كرسيا في مجمع علمي في باريس لتدريس العربية وجاعلا من حملة نابليون على مصر نقطة تحول رئيسية في هذه العلاقة، لكنه في الوقت ذاته، يتبنى أطروحة المؤرخ جيرالد أربوات الذي يجعل من سياسة نابليون الثالث سنة 1860 بداية سياسة عربية حقيقية رغم أنه قد مرت على هذا التاريخ ثلاثة عقود من استعمار الجزائر. وقتها تولى مجموعة من الدبلوماسيين ورجال الأعمال بلورة هذه السياسة لتظهر مدارس متخصصة في العالم العربي مهدت للتعريف بهذا العالم واستعماره كذلك. وكان نابليون الثالث يحمل بمملكة من الجزائر الى بغداد يعيش فيها العرب والأوربيون.
وصدرت كتب وأبحاث متعددة حول العالم العربي لكنه يعترف في المقابل بأن هذا العالم العربي “يبقى غامضا وغير مفهوم بالقدر الكافي” بالنسبة للفرنسيين ويستمر عرضة للأحكام المسبقة التي تؤثر على صورة الإنسان العربي.
ويستعرض مدى الحضور القوي لدكتاتوريين مثل العراق صدام حسين والليبي معمر القذافي والسوري بشار الأسد والتونسي زين العابدين بنعلي وأمراء الخليج في رسم صورة العربي مخيلة الفرنسيين خلال العقود الأخيرة “وننسى كثيرا أن الشعوب العربية هي التي تؤدي ثمن تصرفات حكامها”. ويستشهد في هذا الصدد قائلا “من الخليج الى المحيط القتلى يعدون بمئات الآلاف، وتكسرت حياة الكثيرين بسبب التعذيب والعشوائية واللجوء، والتطرف الإسلامي ليس من صفات العرب بل من نتائج الاستبداد”.
ومن باب المقارنة النسبية، يقول الكاتب يعيش خمسة ملايين مسلم في فرنسا وأغلبهم من أصول عربية ونصف المسلمين يحملون الجنسية الفرنسية “وأوضاعهم ليست بالسهلة…يجب الاعتراف بأن التمييز يستمر والعنصرية ومعاداة المسلمين واقع مر في حياتنا والانزلاقات تجاه المسلمين لا تتوانى عن الارتفاع”.
ويربط كثيرا بين “عرب فرنسا” وباقي العرب في العالم العربي، ويقول أن ما يعيشه عرب فرنسا من تهميش وتهجم فكري من بعض المثقفين واستغلال سياسي من الجبهة الفرنسية وترويج أحكام مسبقة لا يخدم صورة فرنسا لدى الرأي العام العربي. ويرى أنه رغم ظاهرة إسلاموفوبيا التي عوضت العنصرية الكلاسيكية، يبقى أغلب عرب فرنسا مندمجين في المجتمع الفرنسي بشكل رائع وبدون تناقض.
ويستعرض الكاتب السياسة العربية تجاه العالم العربي منذ الخمسينات حتى اليوم عبر دراسة حقبة كل رئيس من شارل دوغول الى فرانسوا هولند مرورا ببومبيدو وجيسكار ديستان وفرانسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي. وفي الوقت ذاته، يخصص فصلا لأبرز الدول العربية من المغرب الى قطر، وإن كان مركز الكتاب هو المغرب العربي بسبب العلاقات التاريخية القوية وكذلك القضية الفلسطينية.
ويعترف الكتاب بالصعوبات التي واجهتها فرنسا لبناء دبلوماسية تجاه العالم العربي، واعترضتها أساسا استقلال دول المغربي العربي عن الاستعمار الفرنسي، وكان استقلالا دمويا في بعض الأحيان مثل حالة الجزائر، وتورط فرنسا في دعم إسرائيل بالأسلحة والدعم السياسي ثم المشاركة في العدوان الثلاثي ضد مصر سنة 1956.
ويعترف الكاتب بنجاح فرنسا في بناء دبلوماسية مع العالم العربي في أواخر الستينات عندما وجهت انتقادات قوية لإسرائيل ومنها تدمير الأخيرة للأسطول الجوي المدني اللبناني. وبدأت علاقاتها تسجل انفراجا مع دول المغرب العربي وتبني علاقات لأول مرة مع الخليج العربي والشرق الأوسط. ويتبنى شهادة رئيس الحكومة السابق دومنيك دو فيلبان أحد كبار العارفين بالعالم العربي بأن دوغول تبنى برغماتية سياسية واقتصادية ودبلوماسية مع العالم العربي آخذا بعين الاعتبار مشاكلها وتناقضاتها، وهو ما جعله ينجح في إرساء “سياسة فرنسية تجاه العالم العربي شكلت قاعدة للرؤساء اللاحقين.
وينسب الكتاب للرئيس جورج بومبيدو (1969-1974) تحقيق فرنسا حلم تطبيق إرساء علاقات متميزة مع العالم العربي التي كان يرغب فيها دوغول. ولا يتردد في وصف السبعينات بالفترة الذهبية لفرنسا في العالم العربي نتيجة صورتها الإيجابية التي انفردت بها بفضل تفهم أكبر للقضية الفلسطينية التي تحولت
حينئذ لقضية مركزية في السياسة والوجدان العربي. ومن عناوين نجاح هذه السياسة هو حصول فرنسا على صفقات توصف “بصفقات القرن” مع دول مثل ليبيا والعراق والعربية السعودية ثم تدخلها في لبنان ضمن قوات الأمم المتحدة عندما هاجمت إسرائيل لبنان. وكان وصول قوات فرنسية سنة 1978 هي الأولى من نوعها في بلد عربي بعد مغادرة الجزائر سنة 1962 لتكون مقدمة لتدخلات متتالية أبرزها مشاركة فرنسا في حرب الخليج الأولى سنة 1991 ثم التدخل في ليبيا سنة 2011.
ويبرز إنياس دال نجاح فرنسا من الانتقال مما هو تجاري الى بلورة خطاب سياسي يختلف حتى عن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، فقد نجح الرئيس جيسكار ديسان بفضل وزير خارجيته ميشيل جوبير في طرح ما يسمى “الحوار الأوروبي-العربي”.
ويتقاسم الكتاب رأي وزير الدفاع الفرنسي الذي قدم استقالته بيير شوفينمو عندما قال أن “السياسة العربية لفرنسا انتهت بموافقة ميتران التدخل في حرب الخليج سنة 1991 الى جانب الولايات المتحدة”.
وتمزيت مرحلة جاك شيراك بمحاولة تجديد السياسة العربية واستعادة استراتيجية شارل ديغول في أواخر الستينات. وعمليا، يعتبر أنه نجح في رسم علاقات جديدة مع القادة العرب ومع الرأي العام العربي بزيارته القدس الشرقية والمواجهة التي وقعت له مع الأمن الإسرائيلي عندما كان يرغب في السلام على الفلسطينيين ثم خطاب وزير خارجية دومنيك دوفيلبان في مجلس الأمن سنة 2003 لمعارضة الحرب.
ويؤكد إنياس دال أن كل الرؤساء الذين تناوبوا على الحكم منذ الخمسينات حافظوا على نوع من الاستمرارية رغم الاختلافات باستثناء الرئيس نيكولا ساركوزي سنة 2007 الذي انحاز الى واشنطن وألقى خطابا في الكونغرس يوم 7 نوفمبر من السنة نفسها يعلن للأمريكيين أنه حليفهم، وقتها فقدت باريس استقلاليتها التي ميزتها طيلة عقود. ويؤكد المؤلف انهيار مفهوم السياسة العربية لفرنسا مع ساركوزي الذي كانت صورته سيئة للغاية في أعين العرب ومنها في منطقة المغرب العربي. ومن عناوين سقطات ساركوزي رغبته في تقديم العون الأمني للرئيس المخلوع زين العابدين بنعلي في اليوم نفسه الذي كان الشعب يسقط الدكتاتور.
ويعتبر الرئيس الفرنسي الحالي فرانسوا هولند الرئيس الذي واجه تحديا كبيرا، فقد تزامن وصوله الى السلطة مع الربيع العربي، ووجدت دبلوماسية باريس نفسها أمام وضع جديد في العلاقات الدولية يتطلب مفاهيم وآليات جديدة، فلم تعد فرنسا تتعامل فقط مع الأنظمة الدكتاتورية من رئاسية وملكية بل وأمامها شعوب تطالب بالكرامة والمشاركة في صنع القرار. ويركز على القضية الفلسطينية، ليبرز مدى تأخر فرنسا في هذا الملف وعدم أخذها مبادرة مستقلة.
وينطلق من هذه الأفكار ليتساءل هل يمكن أن نغير من سياستنا تجاه العالم العربي بما هو أحسن، حيث يحاول الإجابة عبر فصول متعددة من خلال تخصيص فصل عن علاقة فرنسا بكل دولة عربية على حدة. في هذا الصدد،
ويستخلص من خلال استعراض تصريحات متعددة الى القول بأن تجديد دبلوماسية فرنسا تجاه العالم العربي يتم عبر فهم أعمق من طرف الفرنسيين للإسلام وفسح المجال لعرب فرنسا في مختلف المجالات، وضرورة تبني الدولة الفرنسية لبرامج لتطوير علاقاتها بمختلف الفاعلين السياسيين والمثقفين في العالم العربي، والمبادرة بمواقف مشرفة في القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.