بدأت قناة الجزيرة تفقد ريادتها في العالم العربي بسبب المنافسة القوية من قنوات أخرى، وهي منافسة تمتد الى مناطق معينة ومحددة مثل المغرب العربي-الأمازيغي، وتمتد المنافسة كذلك الى الخطاب الإعلامي في ارتباطه بالسياسي. وتحافظ الجزيرة على أكبر نسبة من المشاهدة ولكن ليس عبر قناتها الرئيسية الإخبارية، بل بفضل باقتها المتكاملة وخاصة القنوات الرياضية بتقديمها كبريات الدوريات الأوروبية علاوة على المحلية. وتبقى المفارقة هو تحول الجزيرة من مرجع للأخبار السياسية الى مرجع للرياضة.
وسيحتفظ تاريخ الإعلام لقناة الجزيرة بإنجاز يصعب العثور على مثيل له، ويتجلى في دورها في إحداث تغييرات كبيرة في الرأي العام العربي منذ ظهورها الى انفجار الربيع العربي-الأمازيغي. وعمليا، لا يمكن فهم الربيع العربي-الأمازيغي وانتفاضة الشعوب العربية من أجل الكرامة والديمقراطية بدون فهم تأثير الجزيرة في هذه المنطقة من العالم.
وفي وقت كان العالم العربي يعاني من أنظمة قامعة لحرية التعبير، تطل قناة الجزيرة من الفضاء، مما جعل آليات المراقبة عديمة الجدوى، ببرامجها الجريئة وأبرزها “الاتجاه المعاكس” متناولة حقوق الإنسان وتزييف الانتخابات وتفاقم الفساد، والأهم كان منحها منصة إعلامية للحركات والشخصيات الهادفة للتغيير للوصول الى مواطني القطر الواحد ومواطني العالم العربي. وتدريجيا، استطاعت القناة المساهمة بشكل فعال في بناء رأي عام يتجاوز المفاهيم الكلاسيكية التي تربطه من لغة ودين وتاريخ مشترك الى الاشتراك في مطالب برغماتية مثل مطلب الحرية وحلم الديمقراطية والتطلع للعيش الكريم بكرامة.
ومن سنن التاريخ، بعد الذروة والنجاح هناك الصمود أو بداية الانحدار. والجزيرة أشبه بذلك اللاعب الذي يبرز نجمه فترة ثم ما يلبث أن يتراجع أكثر منها من ذلك الكاتب أو الروائي الذي يبدع ويتوقف في الوقت المناسب محافظا على مستوى عال جدا.
ويبقى الربيع العربي المنعطف في تاريخ قناة الجزيرة، فقد اكتسبت شرعية حقيقية في بداية الربيع لدورها في التغيير في تونس ومصر وليبيا ولكنها لاحقا تعرضت لتساؤلات حول دورها السياسي في انتفاضات أخرى.
ومن العوامل التي تساهم في تراجع الجزيرة وتجعل ريادتها بفضل القنوات الرياضية، هناك تلك المعروفة وأخرى لم تحظى بالاهتمام حتى الآن، وهذه العوامل هي:
-العامل الكلاسيكي الأول هو غلبة الخط الدبلوماسي لدول قطر على الجزيرة، حتى أصبحت في لحظات معينة ملحقة بالخارجية القطرية فاقدة تلك الاستقلالية التي تمتعت بها في أواخر التسعينات وحتى سنة 2010. وتوجد كتابات متعددة حول ميل بوصلة القناة مع شراع خارجية الدوحة. ولم تدرك القناة تطور العالم العربي الذي يقبل بتبني وسيلة إعلام إديولوجية معينة ولكن ليس الانخراط في مشاريع سياسية بعضها يصل الى ما هو دموي.
-العامل الثاني وقد يكون أقل بروزا وهو ارتفاع الطابع المحافظ للقناة بتهميشها للأصوات الليبرالية واليسارية وتغليب حضور الطرح الديني والمحافظ، ويحدث هذا في وقت لم يعد للحركات الدينية الهيمنة على المشهد السياسي في العالم العربي.
العامل الثالث، هو الفقر في الإبداع وعدم تطوير المنتوج الإعلامي رغم ما تتوفر عليه من أموال، وقد يكون هذا الفقر مرتبط بقلة الدراسات الإعلامية. ونهجت الجزيرة التقليد، تقليد الغرب وخاصة الأنجلوسكسوني، دون التوفيق في بعض البرامج.
-العامل الرابع وهو المنافسة القوية من الفضائيات التلفزيونية الجديدة، ولا يتعلق الأمر بقناة العربية بل بقنوات مثل الميادين وقناة فرانس 24 وقناة بي بي سي علاوة على قناة سكاي نيوز والعالم.
وعلاقة بهذا العامل الأخير، فقد نجحت هذه القنوات قطريا وإقليميا في الحد من هيمنة قناة الجزيرة. وتنافس قناة الميادين الجزيرة حول سوريا والشرق الأوسط بخطاب لا يعني أنه يتماشى مع الواقع ولكن بخطاب إعلامي مضاد يؤطر ويصنف ضمن ما يصطلح عليه ب “خطاب الممانعة”. والمنافسة نفسها تجدها الجزيرة من طرف قنوات مثل بي بي سي وسكاي نيوز والعالم حول الشرق الأوسط.
وفي منطقة المغرب العربي، قد لا نجازف بالقول بتجاوز قناة فرانس 24 الجزيرة أو على الأقل تقترب منها. وعثرت فرانس 24 على السر والوصفة في منافسة الجزيرة والتفوق عليها، ذلك أن الرأي العام العربي كان يحس بمشاعر التهميش التي تصل الى نوع من الاحتقار وهو يرى قناة الجزيرة تولي اهتماما كبيرا لسياسي الشرق ومثقفي الشرق ومخواضيع الشرق، بينما هو في المقابل يحظى بالفتات في الأجندة الإعلامية بما في ذلك في نشرة المغرب العربي. وتماشيا مع مصالح فرنسا، ركزت فرانس 24 على المغرب العربي بشكل مكثف. ورغم ارتباطها بالدولة الفرنسية، إلا أنها استطاعت بشكل كبير معالجة الطابوهات منها الملكية في المغرب والمؤسسة العسكرية في الجزائر وقضية العبودية والرق في موريتانيا، بينما لم يعد في تونس من طابوهات. كما استفادت فرانس 24 من تجربة القسم العربي لفرانس 24 الذي يعتبر مرجعا رئيسيا ومنذ عقود لصحفي المغرب العربي ووجود عشرات الصحفيين المغاربيين في باريس.
وفقدت قناة الجزيرة مرجعتها للصحافة وخاصة الرقمية منها، إذ أصبحت الصحف الرقمية المغاربية تزخر بأخبار فرانس 24 وأشرطة فيديو هذه القناة، ويتكرر السيناريو نفسه في حالة الشرق حيث أشرطة بي بي سي وسكاي نيوز والميادين تتجاوز أشرطة قناة الجزيرة. ولعل أخبار هذه القنوات هي الأكثر حضورا في شبكات التواصل الاجتماعي مثل الفايسبوك وتويتر والأكثر إثارة للجدل والنقاش.
عمليا، لا توجد استطلاعات رأي حقيقية لمعرفة نسبة مشاهدة قناة دون أخرى، لكن هذه المعايير تبقى توجيهية تقترب من معرفة ورصد التغييرات الحاصلة في خريطة المشاهدين في العالم العربي-الأمازيغي، وهذا لا يعني وجود هامش للخطئ. وقناة الجزيرة تستمر رائدة في نسبة المشاهدة، ولكن يحدث هذا بفضل باقة القنوات الرياضية أكثر من السياسية. وزيارة للمقاهي في العالم العربي ومنها تجربة المغرب، تجد الجزيرة الرياضية في غالب الأحيان وليس الجزيرة الإخبارية.
* حسين مجدوبي: دكتور في علوم الاعلام