لآن وقد طارت سكرة الفرحة بتأهل الجزائر والمونديال، لا بد أن تحل محلها فكرة التوقف قليلا عند هذا الإنجاز وما حوله.
لأن الكرة أصبحت الديانة الجديدة للمجتمعات المعاصرة، لا غرابة أن تكون فرحة الفوز والتأهل للمونديال عارمة بهذا الشكل في كل مكان من هذا العالم. وإذا كانت فرحة التأهل تقلب بلدانا عريقة وكبرى، لا تنقصها الأفراح والإنجازات، رأسا على عقب، فلا غرابة أن يفرح بتلك الطريقة المجنونة بلد كالجزائر شعبه هو أحوج ما يكون إلى فرحة أو أي سبب يصنع له فرحة، فجاءهم سبب لا يضاهيه آخر.
في العادة يعبّر التأهل لنهائيات كأس العالم عن مستوى معين من الاستقرار النفسي والاجتماعي والرياضي والاقتصادي والإداري وكذلك النفسي لشعب ما وبلد ما.
فمنطق الأشياء هو أن التأهل إلى مناسبة عالمية كهذه لا يأتي صدفة، بل تتويجا لمسار من الاستقرار بأوجهه المختلفة، كما ورد آنفاً. وقد كان هذا حال الجزائر عندما تأهلت في دورتي إسبانيا والمكسيك في 1982 و1986. كان هناك شعور عام بالرضى الداخلي والاستقرار بكل أنواعه، رغم أنه لم يكن حقيقا ولا كاملا ولا كافيا، تـُوج بالتأهل للمونديال كثمرة لسلسلة متناسقة من الإصلاحات الرياضية أتت ثمرتها المنتظرة.
أما اليوم فيختلف الحال كثيرا إذ تتأهل الجزائر بلا شيء ومن لا شيء تقريبا. بدءا من مدرب الفريق الوطني ولاعبيه. فالأول بوسني عاش في فرنسا وإفريقيا وجاء إلى الجزائر مكلفا بمهمة معينة منصوص عليها في عقد عمل، وسيغادرها فور انتهاء هذه المهمة وربما قبل ذلك إذا كان حظه عاثرا. واللاعبون هم منتوج فرنسي خالص، أغلبيتهم الساحقة وُلدوا ونشأوا في فرنساولعبوا في درجات مختلفة (أغلبها دنيا) من الدوري الفرنسي. وصلتهم بالفريق الجزائري لا تختلف عن صلة المدرب. ليس هذا عيبا أو ذنبا، ولا يمس بتاتا بانتماء أحد من هؤلاء لوطن أبائه وأجداده، وحقه فيه. القضية ليست مطروحة من هذه الزاوية بل من باب سؤال كبير: أين النصيب الجزائري في هذا الإنجاز؟
الجزائر هنا مثل الماسك بشيء ليس ملكه ويخشى أن يفقده في أي لحظة. هذا أحد الأسباب التي تفسر الإشاعات التي تلاحق باستمرار المدرب الوطني وحيد هاليلوزيتش.. إذا حقق الفريق نتائج طيبة سرت إشاعات عن أنه سيغادر الفريق إلى فريق آخر أغنى ودفع له راتبا ومزايا أكثر، وإذا حقق نتائج سيئة سرت إشاعات عن أنه سيترك الفريق مطرودا أو غاضبا من الأجواء غير المشجعة. وهذا يجعل رئيس الإتحاد الجزائري لكرة القدم محمد روراوة يقضي نصف وقته محاولا نفي الإشاعات والتأكيد على تمسكه بالمدرب وبأن علاقته به جيدة.
آخر هذه الإشاعات، والفريق يتأهب للعب مباراته الحاسمة المؤهلة لنهائيات كأس العالم الأسبوع قبل الماضي، سرت عن أن المدرب سيستقيل متوجها لتدريب الفريق القطري بعقد مغرٍ.
الجزائر التي يقارب عدد سكانها 37 مليونا وتتوفر بها أموال طائلة ورصيد مقبول من الإنجازات الرياضية، عجزت عن صناعة مدرب واثنين وعشرين لاعبا قادرين على المنافسة في إفريقيا والعالم، فتلجأ إلى لاعبين من الدرجة الثانية والثالثة في أوروبا وغيرها، لا تنسيق ولا لقاءات بينهم إلا عشية المباريات.
واقع الحال أن الكرة الجزائرية شيء والفريق الوطني الجزائري شيء آخر. لا يوجد تقريبا ما يصل بينهما وكأن لا أحد يشعر بالحاجة للانتماء للآخر. أغلبية لاعبي الفريق في دنيا ولاعبو الدوري الجزائري في دنيا اخرى. المدرب الوطني شيء ومدربو الأندية المحلية شيء آخر. حتى اتحاد الكرة يتعامل مع صورتين وجهتين، الفريق الوطني، ثم بدرجة أقل الكرة المحلية بأنديتها والتي ترك شأنها لهيئات محلية بعضها مافيوي.
الدوري الجزائري اليوم يفتقر للمستوى الفني والبدني الجيد، وتفتقر مبارياته لأي قدرة على الإغراء بمشاهدتها على الرغم من توفر أموال طائلة تصرف على اللاعبين والمدربين وفي الإعلانات (رواتب بعض اللاعبين تعادل 20 و25 مرة راتب الأستاذ الجامعي والطبيب). والجمهور متاح يلهب الدنيا بهجة وحماسا عند الضرورة. فأين الخلل؟
الخلل يكمن في كون الجزائر أخفقت في الكرة كما أخفقت في كثير من المجالات الأخرى. الجزائر في الكرة لا تختلف عنها في بقية المجالات عندما تبحث عن الحلول السهلة الجاهزة، تستورد اللاعبين والمدربين مثلما تستورد المناديل وأقلام الرصاص ولعب الأطفال من الصين. وهذا الوضع لا شاذ ولا غريب، بل هو النتيجة الطبيعية للحالة العامة الأقرب إلى الإفلاس. الكرة خصوصا والرياضة عموما تكملان بقية مناحي الحياة العامة. لو أن الجزائر توفقت في جامعاتها وعلومها واقتصادها ووظائف شبابها، كانت ستتوفق تلقائيا في كرتها ورياضتها.
الذين يطالبون بإصلاح الكرة وإنشاء مدارس للأطفال والشباب ليتسنى للجزائر تكوين فريق وطني حقيقي في المستقبل، يجب أن يطالبوا بإصلاح باقي مناحي الحياة. وربما يجب أن يسألوا أين المتفوقون الأوائل في البكالوريا الذين يكرمهم رئيس الدولة سنويا في عرس بهيج متكرر. ويجب أن يسألوا أين خيرة أبناء البلد وعقولها المفكرة المدبـّرة. وعليهم ان يسألوا لماذا تمتلك الجزائر كتابا ومثقفين ولا تمتلك أدبا مستقل المعالم، ولماذا تمتلك صحافيين ولا تمتلك صحافة، ولماذا تمتلك قضاة ومحققين ولا تمتلك عدالة يثق فيها الناس، ولماذا تمتلك أغلب أدوات الديمقراطية ولا تمتلك ديمقراطية حقيقية.
فرحة الجزائريين بالتأهل لنهائيات كأس العالم طبيعية ومشروعة لشعب أمضى العشرين سنة الأخيرة من وجوده يُحصي الانكسارات وخيبات الأمل. لكنها مهما كبرت ظاهريا، ستبقى منقوصة لا تـُقارن ببهجة التأهل سنتي 1982 و1986، ولا تـُقارن بتأهل سنة 2010 الذي تحقق بطعم خاص استـُمدّ مما أحاط به من مشاحنات مع مصر. تأهل 2013 إنجاز غير كامل ولا يمكن اعتباره ولادة طبيعية لوضع طبيعي. العكس هو الصحيح.
الجزائر في المونديال.. الفرحة المنقوصة/ توفيق رباحي
صورة مركبة لجماهير جزائرية تحتفل بالتأهل