يرتفع الحديث عن الصناعة العسكرية التركية خلال السنوات الأخيرة في الإعلام ومراكز التفكير الاستراتيجي، وكذلك في تصريحات المسؤولين العسكريين والسياسيين على المستوى الدولي. وهذا يعود إلى عاملين الأول وهو القفزة النوعية التي تحققها الصناعة العسكرية التركية، ثم تحول المؤسسة العسكرية إلى أداة لتطبيق السياسة الخارجية لتركيا، التي تعيد رسم الخريطة الجيوسياسية في محيطها الإقليمي، بل في مناطق أخرى من العالم. ويجري كل هذا تحت أعين القوى الكبرى، ولاسيما الغرب الذي تخلف عن التعامل مع هذا البلد.
وتمر المؤسسة العسكرية التركية بمنعطف حقيقي، فقد تعهدت أنقرة سنة 2000 «تركيا صفر مشاكل مع الجيران» أي عدم التدخل في دول الجوار، وكان الجيش وقتها يركز اهتمامه على التدخل للسيطرة على الأوضاع ومواجهة مطالب الأكراد الراغبين في دولة تجمعهم. وبعد حرب العراق سنة 2003 ووصول طيب رجب أردوغان إلى السلطة، سواء رئيس حكومة أو رئيسا للبلاد لاحقا، تغيرت الاستراتيجية بشكل كبير ولافت. وتراجعت الشؤون الداخلية في أجندة المؤسسة العسكرية وحلت محلها الشؤون الخارجية.
ورافق هذا المسلسل، أي الأجندة التركية الجديدة في العلاقات الدولية، تعزيز الصناعة التركية، التي تتقدم بشكل سريع ومتين، إلى مستوى أن تركيا تصنع الآن 70% من احتياجاتها العسكرية، وهي نسبة مرتفعة، علما أنه لا توجد دولة في العالم تعتمد 100% على صناعتها العسكرية، بل تستورد بعض المعدات من دول صديقة. وتستورد فرنسا السلاح الأمريكي، ووقعت مؤخرا صفقة بقيمة ملياري دولار لشراء طائرة E-2D Advanced Hawkeye. وتقتني بريطانيا أسلحة أمريكية، كما تقتني الولايات المتحدة أسلحة فرنسية وألمانية وبريطانية وكندية.
ومن مظاهر هذا التطور، يمكن الاستشهاد بما جرى فقط خلال المدة الأخيرة، حيث تم تسجيل حدثين مهمين للغاية مرتبطين بالمجال العسكري التركي، ويبرزان هذا الاهتمام المتنامي والانعكاسات المترتبة عنه، وهما تصريحات أدميرال سلاح البحر الفرنسي بيير فانديير، وبالضبط يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي خلال الإشراف على الكلية الحربية البحرية، بحديثه عن القوة المتصاعدة لتركيا، التي تكتسبها من خلال تصنيع عشرات السفن الحربية من فرقاطات ودعم لوجيستي وكورفيتات، وحذّر من انعكاس ذلك على مصالح فرنسا. ويتجلى الحادث الثاني في امتعاض روسيا من بيع تركيا طائرات بدون طيار «الدرون» إلى أوكرانيا، لتستعملها في المواجهة القائمة مع مقاتلي الشطر الشرقي دونباس الموالي لروسيا، ما منح لها نوعا من التفوق. ووصفت موسكو استعمال هذه الطائرات بـ»اللعبة الخطيرة».
السياسة الخارجية العسكرية لتركيا تتجلى كذلك في السنوات الأخيرة، من خلال تدخلها في سوريا، حيث أصبحت لاعبا رئيسيا رفقة الولايات المتحدة وروسيا لتحديد مستقبل هذا البلد العربي، كذلك في تدخلها في الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، التي وحسمتها لصالح الأولى بفضل السلاح التركي. ثم تدخل تركيا في ليبيا، الذي يعد منعطفا حقيقيا في البحر الأبيض المتوسط، بحكم أنها قلصت نفوذ فرنسا في هذا البلد بعدما خسرت باريس رهانها السياسي والعسكري على الجنرال حفتر. ويوجد مظهر آخر للسياسة الخارجية التركية القائمة على العامل العسكري وهو مبيعات الأسلحة، التي توقعها مع دول تنتمي إلى العالم الإسلامي من المحيط الأطلسي مثل حالة المغرب، إلى المحيط الهادي مثل حالة إندونيسيا وماليزيا مرورا بدول مثل الجزائر وقطر والسعودية وباكستان، بل حتى مصر. وتشمل هذه الأسلحة السفن الحربية والطائرات من دون طيار، وهي من نوع بيرقدار ثم أنظمة الاتصال. وتبرز الأمثلة المذكورة قلق الآخرين، ولاسيما الغرب، من التوجه الجديد لتركيا، لأنه يضرب التوازن القائم حاليا، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وهو التوازن المعتمد من طرف الغرب للحفاظ على مصالحه، وأساسا ينص على التحكم في مبيعات الأسلحة إلى دول المنطقة، للحفاظ على نوع من التوازن بينها، وأن لا يقترب من ميزان القوى مع الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط. ويدرك الغرب، بل من سنن التاريخ، من امتلك السلاح المتطور قادر على توسيع نفوذه، وعلى فرض قرارات في الساحة الدولية، ذلك أنه لا يمكن فهم مضمون الاتفاقيات بمعزل عن الانتصار في الحرب وقوة السلاح التي لكل طرف.
وتدرك تركيا كل الإدراك أن تحقيق حلمها في التحول إلى دولة وازنة في المنتظم الدولي، لا يكفي استحضار إرث الماضي، أي الإمبراطورية العثمانية والريادة في الدفاع عن القضايا العادلة مثل فلسطين، بل في توسيع النفوذ القائم على عنصر تحتاجه الدول لأمنها القومي وهو السلاح. لهذا تعد الصناعة العسكرية قضية وطنية مثلما هو الحال بالنسبة لدول مثل، روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا بل حتى لدول مثل إيران وباكستان. ويقف الغرب حائرا أمام تطور الدبلوماسية التركية، القائم في جزء منه على الصناعة العسكرية، وجزء آخر على الاقتصاد، ومن عناوينه البارزة قمة تركيا – إفريقيا منذ أيام. ولا يرتاح الغرب لأنقرة رغم عضوية تركيا في منظمة شمال الحلف الأطلسي منذ الخمسينيات. ويسود القلق أساسا الدول الغربية المتوسطية مثل، إيطاليا وإسبانيا وفرنسا التي هيمنت خلال القرون الأخيرة على البحر الأبيض المتوسط، لتجد الآن نفسها أمام قوى جديدة وبالأخص تركيا. ويتفاقم القلق من أن توجه تركيا لم يعد مرتبطا بنوعية الرئيس، أي تفسير هذا التوجه بشخصية طيب رجب أردوغان، بل أصبح اقتناعا للدولة العميقة في البلاد.
لقد عانت تركيا من تهميش الغرب لها، وبين أن تبقى في ذيل الاتحاد الأوروبي تنتظر، أو تصبح قيادية في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، فضلت الرهان الثاني وتحقق فيه تقدما بفضل دبلوماسية قائمة على الصناعة العسكرية والاقتصاد. على ضوء كل هذا، الجميع يتساءل ويتابع السؤال التالي: التوجه الدبلوماسي – العسكري التركي إلى أين؟