هل قررت روسيا القضاء على تنظيم الدولة في سوريا، وبالتالي سيكون العالم أمام مرحلة «تتقلص وستفنى» بدل مرحلة «باقية وتتمدد»، الشعار الذي يردده أنصار هذه الحركة المتطرفة؟ إنه التساؤل الذي يتناوله الخبراء العسكريون في الوقت الراهن حول المدى الذي سيحققه التدخل العسكري الروسي في سوريا بعدما حصل الكرملين على ترخيص البرلمان. وتنطلق موسكو من تجارب عسكرية ناجحة خلال السنوات الأخيرة تتجلى في إنهاء ما بدأته ومنها حرب الشيشان وملف جورجيا وأخيرا أوكرانيا.
ومنذ اندلاع الأزمة السورية، وفرت موسكو لسوريا دعما عسكريا مستمرا بحكم التحالف بينهما، لكنها رفعت من تواجدها العسكري في الأراضي السورية خلال الشهور الأخيرة، وذلك ضمن استراتيجية جديدة للانتشار العسكري في العالم تتضمن مواجهة نفوذ الغرب والدفاع عن حلفائها.
وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يومه الأحد 27 ايلول/سبتمبر الجاري «هناك جيش واحد شرعي وهو الجيش السوري بقيادة بشار الأسد»، وعاد يوم 30 ايلول/سبتمبر إلى القول «الطريقة الوحيدة للقضاء على الإرهابيين هي تصفيتهم من الأراضي التي يحتلونها». تصريحان يعنيان أن كل باقي فصائل المعارضة سواء المعتدلة أو المتطرفة ستكون هدفا للاستراتيجية الروسية، وهو ما يحدث منذ بداية القصف الروسي يوم الأربعاء 30 ايلول/سبتمبر الماضي. ويبقى التساؤل: بعد الهزيمة السوفييتية في أفغانستان، هل تقدم التجربة الحربية الروسية الحديثة في عهد الرئيس فلاديمير بوتين أمثلة لحل النزاعات عبر استعمال القوة العسكرية؟ والجواب هو نعم، إذ توجد أمثلة واضحة وإن اختلفت السياقات السياسية والتاريخية لكن يوجد خط ناظم ورابط بينها وعنوانها البارز هو «إنهاء روسيا المهام العسكرية التي تخوضها». في المقام الأول، استطاعت روسيا القضاء على الجماعات المتطرفة والمسلحة في الشيشان والمناطق المحيطة بها بعد حرب دامية استغرقت طويلا.
في المقام الثاني، لم يتردد الكرملين في خوض تجربة عسكرية قوية في جورجيا سنة 2008 متحديا الغرب من خلال تحجيم دور جورجيا العسكري التي كانت ترغب في تقديم مساعدات هامة للحلف الأطلسي والاعتداء على أبخازيا وأوستيا.
في المقام الثالث، لم يتردد الكرملين في تقسيم أوكرانيا وضم جزيرة القرم إلى أراضيه سنة 2014 رغم تحذيرات الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة.
وتنطلق موسكو من تجربتها العسكرية في العلاقات الدولية منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وهي أمثلة تؤكد ضرورة الأخذ بعين الاعتبار جدية القرار العسكري الروسي في حالة الإقدام على أي حرب أو تدخل عسكري. وتساعد عوامل هامة التحرك الروسي العسكري في سوريا وتجعله مختلفا عن الفشل السوفييتي في أفغانستان بل وعن التدخل الأمريكي الذي يبدأ ولا ينتهي نهائيا كما حصل في الصومال وأفغانستان والعراق بل وحتى سوريا، إذ لم يتم القضاء على تنظيم الدولة رغم ما يقال عن ستة آلاف طلعة جوية ضد هذا التنظيم الإرهابي.
تنطلق روسيا في مغامرتها العسكرية الجديدة في ظل أجواء قلق دولية بعد فشل القوات الغربية في القضاء على تنظيم الدولة، وبدأت تجد ترحيبا من طرف الكثير من الدول وكتاب الرأي في العالم بل وحتى من طرف بعض الزعماء الأمريكيين مثل أحد مرشحي الحزب الجمهوري للرئاسة دونالد ترامب الذي صرح في ولاية أوكلاهوما منذ أيام «روسيا ترغب في تولي مواجهة تنظيم الدولة، فلنتركها تفعل». وعكس ما يعتقد البعض، لا ينطق ترامب من الفراغ أو فلتة لسان فهو يعبر عن تيار داخل الدولة الأمريكية من حكم وجيش وسياسيين ورأي عام. ويتزامن هذا وانتعاش الأطروحة القديمة وسط جزء من الأمريكيين بعدم لعب الولايات المتحدة دور شرطي العالم. وتنطلق هذه المغامرة في وقت بدأ الدعم العربي والغربي للقوات المناهضة للنظام السوري يتلاشى، فتركيا بدأت تغلق حدودها أمام الراغبين في الانضمام إلى المعارضة السورية بما فيها الحركات المتطرفة مثل تنظيم الدولة، وبدأت دول الخليج تعيد النظر في دعمها للمسلحين. وبدورها تضيّق المخابرات الغربية الخناق على الراغبين في الالتحاق بمعسكرات المتطرفين.
وحققت روسيا أول انتصار لها بعد إعلان تكثيف قواتها العسكرية في سوريا، إذ اضطرت الدول الغربية الكبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والمانيا إلى تغيير خطابها بإعلانها مشاورات دولية حول مستقبل سوريا مع استمرار بشار الأسد، وهذا يعني تخليها عن الشرط الرئيسي الذي أصرت عليه طيلة ثلاث سنوات وهو ضرورة رحيل دكتاتور دمشق.
ومن الناحية العسكرية، أول قرار اتخذته وزارة الدفاع الروسية هو رفع مستوى تواجدها العسكري وخاصة على مستوى الطائرات المقاتلة باستعمال عشرات سوخوي 34 المتطورة، ثم إرسال قوات النخبة التي هي عبارة عن مجموعات التدخل القتالي الخاص، ونشر سفن حربية في مياه سوريا وأخيرا إنشاء مركز استخباراتي في بغداد للتنسيق بين سوريا والعراق وروسيا لتحديد كل أماكن وجود تنظيم الدولة في الأراضي السورية والعراقية.
وبهذه الخطوات تضمن روسيا نوعا من النجاح في استراتيجيتها لأن الظروف التي خلقتها لم تتوفر للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة خلال قصفه تنظيم الدولة. وهذه الظروف الملائمة هي: نوعية وجودة المعلومات الاستخباراتية بفضل تواجد قوات سورية في الميدان، حيث تعرف جيدا مكان تواجد كل فريق معارض، وتغطية جوية مكثفة وأخيرا وجود قوات برية. وسيناريو الحرب ضد تنظيم الدولة وباقي الحركات المعارضة سيكون على الشكل التالي:
في المقام الأول، قصف مكثف سيهدف إلى ضرب المواقع الرئيسية لتنظيم الدولة وباقي الحركات المعارضة لإضعافه بشكل كبير ومنع تقدمه نحو أراض جديدة، لن يتمدد تنظيم الدولة بل سيتقلص. وبالتالي جعل مختلف الحركات المسلحة محصورة في فضاءات معينة دون حرية الحركة التي تتمتع بها الآن.
في المقام الثاني، استمرار القصف رفقة عمليات تدخل قتالي من طرف نخبة الجيش الروسي والسوري وإيران وحزب الله، ثم عمليات تمشيط واسعة من طرف القوات السورية.
وتتحدث مصادر عسكرية روسية، وفق عدد من وسائل الإعلام الروسية مثل وكالة «نوفوستي» عن احتمال استمرار القصف المكثف ما بين ثلاثة وأربعة أشهر.
وتستعمل روسيا في هذه الحرب ضد تنظيم الدولة وباقي الحركات أحدث ما لديها من سلاح جوي وتقنيات تدخل الكوماندوهات، وتشكل لها سوريا فرصة لتجريب أسلحتها واستراتيجية الضرب الجوي والبري والبحري في آن واحد.
وكل عملية عسكرية تسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية، والمكاسب في هذه الحرب الروسية في سوريا هي:
أولا، تأكيد روسيا على أنها قوة عسكرية عالمية قادرة على عمليات بعيدة عن حدودها لضمان أمنها القومي.
ثانيا، تطمين روسيا للحلفاء الحقيقيين بأنها لن تتأخر نهائيا في الدفاع عنهم، وتعتبر سوريا حليفا وثيقا للكرملين، وسيعود بشار الأسد كعنصر هام في معادلة البحث عن الحل مستقبلا.
ثالثا، نهاية الانفراد الأمريكي والغربي بصنع القرار في الشرق الأوسط. وارتباطا بهذه النقطة، الحيلولة دون ظهور خريطة سياسية- سيادية جديدة في الدول عبر إيقاف مخطط غربي كان يرمي إلى إعادة تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات جديدة بتقسيم سوريا والعراق. وتتهم روسيا الغرب وبدعم من دول خليجية بمحاولة تغيير خريطة الشرق الأوسط.
وهكذا، تعود روسيا إلى الشرق الأوسط وهي تسعى إلى «يتقلص ويفنى» في حالة تنظيم الدولة، وعدم تطبيق الغرب لخريطة سيادية جديدة في الشرق الأوسط.