انطلقت الحملة الانتخابية و بذلك سباق التشريعيات الاسبانية المُقرر إجرائها يومه 20 من دجنبر. هذه الاستحقاقات استبقتها، مثلما جرت بذلك العادة بالمناسبات الانتخابية، العديد من استطلاعات الرأي و تلتها بذلك العديد من التخمينات، إلا أن هذه الاستطلاعات تباينت توقعاتها الاحتمالية، حيث أن تقديراتها اختلفت من استطلاع إلى آخر، بحسب من قام بإنجازه و لصالح من و لأية غاية. التخمينات، بدورها، تباينت قراءاتها من صانع للرأي العام إلى آخر، بناء على أية استطلاعات و لمصلحة من و لأية أهداف. فمن ستكون بالمناسبة الحكومة الاسبانية المقبلة؟
الاستطلاعات تفاوتت بين الحديث أحيانا عن تقدم للأحزاب التقليدية، الحزب الشعبي (ذو التوجهات اليمينية-المحافظة) “السلطة” و الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني (ذو التوجهات اليسارية-التقدمية) “المعارضة”، و الحديث أحيانا عن تراجعها، و ذلك طبقا لتاريخ و توقيت إجراء الاستطلاع. الأمر نفسه بالنسبة للأحزاب الجديدة، حزب “مواطنون” و حزب “نستطيع”، بينما اعتبر آخر استطلاع صادر عن مركز الأبحاث الاجتماعية (هيئة “مستقلة” تحت اشراف الرئاسة الإسبانية) بأنه لا الأحزاب التقليدية في تقدم و لا الأحزاب الجديدة في تراجع.
المقالة التالية ستقوم بتقديم صورة مغايرة، بعيدا عن صورة الاستطلاعات و استطلاع مركز الأبحاث الاجتماعية، و ذلك بالاعتماد على توظيف المعرفة العلمية و المنهجية الاستقرائية للسيسيولوجيا السياسية، بهدف تقديم الصورة الأقرب للواقع، و بذلك تقديم الافتراضيات، الممكنة و الواقعية، للحكومة الاسبانية المُقبلة.
المقاربة ستنطلق من حقيقة استحالة انتزاع الأغلبية المطلقة (أكثر من 175 من مجموع مقاعد البرلمان البالغة 350) من طرف أية تشكيلة سياسية بمفردها، نظرا لبلقنة الخارطة الحزبية و تشتت الهيئة الناخبة، بالمقارنة مع سنة 2012، خاصة بالنسبة للحزب الشعبي الحاكم، المنتهية ولايته للتو، نظرا لحرصه طيلة تدبيره للحكومة على مصلحة الدولة (تجنب انهيارها و افلاسها) و تفريطه في مصلحة الشعب، بنهجه لسياسة تقشفية و اتخاده لقرارات صعبة و قيامه بإجراءات مصيرية، يجمع خصومه على أنها “غير شعبية” بينما يراها هو بأنها كانت “مصيرية”.
لذلك ستتم المراهنة على الأغلبية العددية، بسبب بروز حزب “مواطنون” و حزب “نستطيع” على اعتبار أنهم سيصعبون المنافسة السياسية، خلافا لما كان عليه الأمر سابقا بإسبانيا، حينما دأب الإسبان على التناوب على الأحزاب التقليدية.
المُتوقع، إذا استحضرنا مكانة و خسارة الأحزاب المتبارية مع ماضيها، إحراز الحزب الشعبي (100-110) مقعد و الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني (75-85) وحزب “مواطنون” (70-80) و حزب “نستطيع” (50-60) للاعتبارات أسفله.
بالنسبة للحزب الشعبي فقد تراجع كثيرا إبان إدارته للحكومة، و بدا ذلك جليا بالانتخابات المحلية لشهر مايو المنصرم بعدما خسر أكثر من مليوني صوت (%10-) مقارنة بانتخابات 2011 وبالنسبة للحزب الاشتراكي العمالي الإسباني فقد تضرَّر بسبب “مسؤوليته” عن الأزمة الاقتصادية و اكتوائه بتداعياتها الاجتماعية.
أمَّا بخصوص حزب “مواطنون” فإن حصته المتوقعة، ممكنة نسبيا، نظرا للعديد من الاعتبارات. أولا، نشأته بالتدرج، حيث تدرج منذ 2006، سنة نشأته ببرشلونة، و انتشر تقريبا بجميع تراب اسبانيا. ثانيا، انتهاجه لخطاب الوسطية و الاعتدالية و أخيرا مكانته بالعديد من الحكومات الجهوية. أمَّا بالنسبة لحزب “نستطيع”، فإن حصته المتوقعة، مُنتظرة، نظرا للعديد من الاعتبارات. أولا، حداثة نشأته (يناير 2014). ثانيا، بروزه، بسرعة و بقوة، و بعدها خفوته، بذات القوة و ذات السرعة، و ثالثا و أخيرا، بسبب طبيعته الأيديولوجية الراديكالية ذات المرجعية الثورية.
إحراز المقاعد المتوقعة أعلاه سيتم بتصويت الفئات الاجتماعية التالية على أحزابها المتبارية. بالنسبة للحزب الشعبي فسيتم التصويت عليه من طرف التجار و أرباب الأعمال الحرة و الأطر العليا و كبار رجالات الدولة، بينما تعد نقطة قوته فئة المتقاعدين و كبار السن نظرا لشيخوخة المجتمع بإسبانيا.
بالنسبة للحزب الاشتراكي العمالي الاسباني فسيتم التصويت عليه من طرف الفئات المتوسطة التعليم و الطبقة العاملة و الشغيلة ذات الأجور المنخفضة و النساء، بينما تعد نقطة قوته الفئة العاطلة (%25) من الإسبان، تقريبا خمسة مليون عاطل عن العمل بإسبانيا اليوم.
بالنسبة لحزب “مواطنون” فسيتم التصويت عليه من طرف الفئات العمرية الكبيرة السن و الفئات الشبابية الميسورة و الفئات الاجتماعية ذات المستويات التعليمية العليا و الفئات الذكورية و فئة الأجراء و أطر الإدارة و الطبقات الاجتماعية المتوسطة والعليا، بينما نقطة قوته أصوات الهيئة الناخبة الحضرية، إلا أن نقطة ضعفه، أصوات الطبقة المتقاعدة.
وفيما يخص حزب “نستطيع” فسيحصل بدون شك على أصوات الطلبة نسبة عالية من الطلبة والعاطلين والشغيلة المستخدمة و الأصوات الشبابية، بينما نقطة قوته أصوات أنصاره من ( حركة 15 مايو) الغاضبة و الساخطة.
إلا أنه بالرغم من توزيع الأصوات أعلاه، تجدر الإشارة إلى المستجدات التالية بالكتلة الناخبة الاسبانية. أولها الأحزاب التقليدية، تستمر في إبقائها على هيئتها الناخبة بالبادية و بين الفئات المجتمعية الكبيرة السن و ذات المستويات التعليمية المتدنية و العائدات الضئيلة. ثانيا، هذه الأحزاب تنافسها الأحزاب الجديدة بالحواضر. ثالثا، ثلث من يحق لهم التصويت، بحسب الاستطلاعات، لم يقرر بعد لمن سيصوت أو ربما قد يقاطع و يمتنع عن التصويت، و رابعا و أخيرا، حزب “نستطيع” فقد الكثير من مؤيديه و حزب “مواطنون” ارتفع عدد مناصريه.
هذا التوزيع للمقاعد البرلمانية سيفرز بتحققه الإمكانيات الحكومية التالية. إمَّا سيفرز، حكومة ائتلافية بالأغلبية المطلقة بين الحزب الشعبي و حزب “مواطنون” (180 مقعد). هذه التشكيلة الحكومية سيترأسها الحزب الشعبي و قد ينوب عنه حزب “مواطنون” بمشاركة وزارية بحجم مقاعده المحصلة. هذه الحكومة سيتم إسناد رئاستها لشخص آخر من الحزب الشعبي غير رئيس الحكومة المنتهية ولايته، و قد يتم اسناد نيابتها لرئيس حزب “مواطنون” ألبير ريبيرا، نظير قبوله تحالفه مع الحزب الشعبي و بالتالي إعداد الحكومة.
الامكانية أعلاه واردة بورود الأسباب الداعمة لها و منها أساسا الاعتبارات البراغماتية. فأولا، الأرجحية موضوع الحديث ستجنب الحزب الشعبي من الانهيار باستمراره بدواليب الحكم، بينما ستمنح لحزب “مواطنون” فرصة الاحتكاك بأمور الدولة و تمكنه من اكتساب و مراكمة الخبرة السياسية و التدبيرية و تقلد المسؤولية بالعديد من المناصب الهامة بأجهزة الدولة، و هذا كله، سيخدم مصالحه المستقبلية، باعتباره مشروعا سياسيا مستقبليا بامتياز، قد يكسب على الأرجح التشريعيات المقبلة، إلا أن هذه الافتراضية قد لا تخلو من مخاطر، و منها خيانة ناخبيه.
الأرجحية الثانية، افراز حكومة ائتلافية بذورها ذات أغلبية مطلقة (185 مقعد) مشكلة من الحزب الشعبي و الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني بالرغم من كونها ستكون مستهجنة بالنسبة للرأي العام نظرا لتشكلها من المتناقضات (الحزب و نقيضه). هذه الافتراضية ستتم في إطار صفقة بين هاته الأحزاب التقليدية، ما دام بالنسبة لها ما يبررها و ستستند في ذلك إلى سابقة أوروبية (الأغلبية الحكومية الألمانية) و تستند إلى عدم تنافيها مع القانون، هذا فضلا عن كونها تخدم مصالح الحزبين معا، بحيث سيتم بها قطع الطريق عن الأحزاب الجديدة، الخصم المشترك.
أمَّا إذا استحضرنا مفاجآت التاريخ و امكانية خطأ الاستطلاعات، فإن حزب “مواطنون” قد يكون على الأرجح الرابح الأكبر من هذه الاستحقاقات. فتاريخ الاستحقاقات الاسبانية له مفاجأته الكثيرة و نتائجها العكسية. أولها، سقوط الحكومة الشعبية سنة 2004 بسبب تفجيرات مدريد (مارس 2004). ثانيها، سقوط الحكومة الاشتراكية سنة 2011 بسبب الأزمة الاقتصادية (2008). أمَّا توقعات الاستطلاعات فقد تصيب مثلما قد تخيب أيضا، و إن كانت صادرة عن مركز الأبحاث الاجتماعية. فقد اخلف الموعد بتوقعاته بخصوص انفصال كاتالونيا ، وبالتالي “فمواطنون” قد يستفيد من التطورات السياسية المفاجئة بسبب تغيير وسط الناخب بظهور أحزاب ووضع كتالونيا والأزمة وقد يقفز الى المركز الأول.
إن حزب “مواطنون” قد تموقع بنجاح كحزب وسط على حساب باقي الأحزاب و حسم عدم تحالفه مع الرابح المفترض بالانتخابات، و هذه دعوة للناخبين للتصويت عليه كونه لم يتم تجريبه بعد بالحكومة و يجب اعطائه فرصة ذلك، فضلا عن استفادته من تراجع الثنائية الحزبية و هذا الأمر تأكده الاستطلاعات. أمَّا زعيم الحزب ألبير ريبيرا، فلعله شخصية اللحظة السياسية، كونه على الأرجح، السياسي ذو الأصول الكتلانية القادر على وقف زحف النزعة الانفصالية الكتلانية. فإذا تعب حقا و فعلا الاسبان من الأحزاب التقليدية، المتناوبة على السلطة، فقد يصوتون له.
إلا أن الاستفهام الكبير المطروح على النخبة السياسية الاسبانية و مؤسسات الدولة، فهو: هل تصورت يوما ما امكانية حكومة انقاد وطنية، و لو بالرغم من عدم وجود أزمة سياسية أو مؤسساتية معلنة بالبلاد، و إنما فقط بوجود تحديات كبيرة بها، بحجم الأزمة السياسية-المؤسساتية، خاصة و أنها قد تعصف باستقرار اسبانيا و سيرورتها التاريخية، و منها أساسا تحديات النزعة الانفصالية الكتلانية و استمرار تداعيات الأزمة الاقتصادية و عدم اجراء اصلاحات دستورية مند 1978 و هل تصورت يوما أن تكون الأزمة الاقتصادية مدخلا للأزمة السياسية و المؤسساتية؟
أحمد بنصالح الصالحي: مهتم و متتبع للعلاقات المغربية-الإسبانية و العلاقات المغربية-الأمريكية اللاتينية