الاستشراق الاعلامي: بي بي سي والحرة وفرانس 24/ د. حسين مجدوبي

فرانس 24

ظهرت خلال العقد الماضي القنوات الغربية باللغة العربية الموجهة الى الجمهور العربي، وهي محاولات إعلامية لا يمكن فصلها عن الاستشراق الكلاسيكي ولكن هذه المرة في قالب إعلامي لخدمة الأجندة الدبلوماسية للدول التي تقف وراءها، ولكن في الوقت ذاته، لا يمكن التقليل من دورها كمنبر للتعبير الحر في ظل تردي الاعلام العربي مع بعض الاستثناءات.

ويعتبر الاعلام العربي وخاصة المتعلق بكل قطر عربي على حدة متخلفا للغاية لغياب حرية التعبير وعدم الاهتمام الحقيقي والعميق بقضايا المواطنين، وفي المقابل يركز هذا الاعلام على كل جوانب حياة “جلالة الملك أو فخامة الرئيس”، وبطبيعة الحال مع استثناء اختلاسه أموال الشعب وحساباته البنكية السرية في الخارج التي تتكلف بفضحها الصحافة الغربية.

فقد كشف التجارب الدولية تطور الاعلام مع تطور الديمقراطية، وإن امتلكت الدول آخر أدوات التكنولوجيا، فالإعلام يبقى هو المضمون الواقعي العاكس للحقيقة، الخطاب، وكيفية تلقي المتلقي لهذا الخطاب، هل يقبله أم لا، وهو ما يفتقده الاعلام العربي. وهذا التردي هو الذي دفع العالم العربي الى احتضان راديو بي بي سي  بالعربية في الماضي ولاحقا الى احتضان تجربة قناة الجزيرة التي شكلت منعطفا في تاريخ الاعلام العربي، والآن يحتضن نسبيا القنوات الفضائية الغربية الناطقة بالعربية.

وأدركت الدول الغربية أهمية التلفزيون كأداة للتواصل مع العالم العربي لسببين: الأول وهو تفضيل المتلقي العربي للتلفزيون على الصحيفة خاصة في مجتمعات تسود فيها الأمية وتهمين فيها المعرفة المحدودة، ويتجلى السبب الثاني في تجاوز الفضائيات الرقابة الوطنية.  وخلال القرن الماضي كانت الأنظمة تمنع الجرائد مثل لوموند أو الواشنطن بوست إذا تحدثت  عن سلبيات النظام القائم، لكن لا يمكن إنشاء شرطة الفضاء لمنع الفضائيات،  رغم أن وزراء الاعلام العربي حاولوا في قمة لهم سنة 2010 في القاهرة إنشاء شرطة الفضاء للتحكم في الفضائيات، لكن الربيع العربي فاجأهم، كما أن التكنولوجيا عادة ما تقهر الطغاة، ويكفي الاطلاع على دور الفايسبوك في وقتنا الراهن ضمن شبكات التواصل الاجتماعي.

وهكذا، في ظل التطورات جيوسياسية الهائلة في بداية القرن 21، أي بداية العقد الماضي وعلى رأسها تفجيرات 11 سبتمبر الإرهابية والغزو الأمريكي-البريطاني للعراق وما نتج عنه من ضرب الاستقرار في الشرق الأوسط، راهنت الدول الغربية على إنشاء فضائيات غربية باللغة العربية في محاولة منها لمخاطبة الرأي العام العربي-الأمازيغي بعدما وعت، وبقلق، بالشرخ الخطير بين الغرب والعالم الإسلامي نتيجة هذه الأحداث.

وتقول الباحثة المغربية سلمى الأزرق من كلية الاعلام في جامعة مالقا الإسبانية وتنجز رسالة دكتوراه حول موضوع الفضائيات الغربية باللغة العربية “هذه القنوات الفضائية الجديدة هي استمرار للإستشراق لكنه هذه المرة إعلامي ويعود الى الثلاثينات من القرن الماضي عندما سارعت دول مثل المانيا وبريطانيا وإيطاليا الى إنشاء إذاعات باللغة العربية مخصصة للجمهور العربي في وقت كان العالم فيه على أبواب الحرب العالمية الثانية وتحتاج الدول المتصارعة الى حشد الدعم وتعاطف الأمم مع هذا الطرف أو ذاك. وعمدت الدول الغربية لاحقا الى إنشاء الأقسام العربية لكبريات وكالة الأنباء مثل رويترز وفرانس برس، والآن تراهن على الفضائيات لتصل الى أكبر نسبة من الجمهور”.

وعمليا، هذه الفضائيات هي امتداد للإستشراق الكلاسيكي لكن مع بعض الاختلافات، ولعل الاختلاف الأول وهو أن الاستشراق أعطى مفكرين كبار مختصين في الحضارة العربية والإسلامية، بينما الاستشراق الاعلامي يعتمد على صحفيين من العالم العربي للتنفيذ. وفي الوقت ذاته، تحاول هذه الفضائيات بطريقة أو أخرى خدمة الأجندة الدبلوماسية لهذه الدول الغربية في العالم العربي لاسيما في وقت يزداد وزن الرأي العام العربي-الأمازيغي في صناعة القرار السياسي بطريقة أو أخرى.

وهكذا، تعتقد الدول الغربية بأن الرأي العالم العربي هو ضحية خطابات تلفزيونية عنيفة تروجها قنوات تلفزيونية، وتدمج حتى قناة الجزيرة في هذا الشأن، وتعتقد في المقابل ضرورة الرهان على خطاب مضاد. كما تحاول هذه الدول عبر القنوات التي أنشأتها نشر ما تعتبره قيم حقوق الإنسان والليبرالية والحريات الفردية وسط المجتمع العربي، أي تتخذ ثوب المصلح السياسي والاجتماعي.

ورغم الاختلاف في تأويل دول هاته الفضائيات وبعض سلبياتها،  فقدت نجحت في إيجاد فضاء لها وسط العالم العربي-الأمازيغي. وهي تستفيد من تراجع القنوات العربية وأساسا الجزيرة بسبب عدم هذه الأخيرة تجديد شبكة برامجها وجعلها تتماشى والتغيرات الهائلة التي يشهدها العالم العربي. ولعل نجاح بعض الفضائيات الغربية الناطقة عربيا يعود الى طرحها مواضيع من قلب انشغالات واهتمامات المجتمع العربي، كما يعود الى العامل الجغرافي من خلال تركيز كل قناة على مستعمراتها السابقة وتوظيف خبرتها الثقافية والسياسية التي اكتسبتها منذ الماضي. لهذا تحظى قناة بي بي سي بنسبة مشاهدة مرتفعة في الشرق الأوسط، وتعتبر فرانس 24 مرجعا لمنطقة المغربي العربي-الأمازيغي بينما قنوات أخرى مثل الألمانية والأمريكية الحرة تبقى بدون بوصلة حتى الآن لفشلها في إيجاد أجندة إعلامية مقنعة تجذب من خلالها الجمهور العربي.

وتكمن القيمة التي أضافتها هذه القنوات هو معالجتها لمواضيع تدخل في نطاق الطابو مثل فساد الأنظمة العربية واستضافتها لوجوه لا يمكن نهائيا رؤيتها في القنوات الوطنية العربية. ومن ضمن الأمثلة، لا يمكن رؤية الأمير هشام ابن عم ملك المغرب المعروف بخطابه الانتقادي للوضع القائم في التلفزيون المغربي بل حتى في قنوات عربية مثل الجزيرة، لكن قناة فرانس 24  استضافته مرات عديدة. ويتكرر الأمر مع شخصيات مغربية أخرى مثل وزير حقوق الإنسان السابق محمد زيان، أو وجوه من المعارضة في الخارج. ونبقى دائما في المغرب، كان من الصعب إطلاع المغربي على كل حقائق والمواقف الخاصة بالحراك الشعبي في الريف لو اقتصر على التلفزيون الرسمي، فقد لعبت مثلا فرانس 24 دورا هاما في معالجة مختلف جوانب هذا الحراك، وهي معالجة أغضبت في الكثير من الأحيان الدولة المغربية.

وتخوض هذه القنوات حربا جيوإعلامية لا تنفصل عن الصراعات جيوسياسية لربح تعاطف الرأي العام العربي. ويعد الإعلام الواجهة البارزة لكل الحروب والصراعات، ولهذا فقد انضافت دول أخرى الى البحث عن فضاء لها في العالم العربي من خلال إنشاء قنوات تلفزيونية بالعربية مثل الروسية والصينية وحتى التركية، ولكنها لا تدخل في الاستشراق الاعلامي لأنها بدورها تقع في الشرق. وهكذا، يكون العالم العربي مسرحا لمواجهة لتحقيق النفوذ بمختلف تلاوينه ومنه الاعلامي.

Sign In

Reset Your Password