صدر للزميل حسين مجدوبي كتاب “ثورة الكرامة في العالم العربي” باللغة الإسبانية يعالج تطورات الربيع العربي وآفاق المستقبل وسط الأوطان العربية وفي العلاقات الدولية. ووقع تقديم الكتاب الأمير مولاي هشام ابن عم الملك محمد السادس. وتقدم ألف بوست الترجمة الكاملة من اللغة الإسبانية الى العربية للتقديم، كما ستقدم لاحقا مقالا حول الكتاب وآخر حول الفصل المخصص للمغرب.
نص الأمير مولاي هشام:
تشكل الانتفاضات العربية الكبرى التي يعيشها العالم العربي مصدر جذابا لدراسة وتحليل أحد أهم الأحداث التاريخية الكبرى التي تطبع العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين، سواء أكان ذلك في مميزاتها وخاصياتها أم في ديناميتها.
وكتاب حسين مجدوبي “ثورة الكرامة في العالم العربي” الذي بين أيدنيا، نموذج من الكتابات التحليلية الرصينة والمتكاملة التي اهتمت بفك طبيعة هذه الانتفاضات العربية ورصد خصوصيتها، وامتداداتها الثقافية والسياسية والجيواستراتيجية عربيا ودوليا. وفي إطار، معالجته لكل العوامل، أفرد حيزا غير مطروق بما فيه الكفاية من خلال إبراز دور وسائل الاعلام خلال السنوات العشر الأخيرة في صناعة رأي عام نقدي لمواطن عربي كان دوره حاسما خلال انفجار الثورات في وضع نهاية لبعض الأنظمة الدكتاتورية.
ويعتمد الكتاب أربعة زوايا رئيسية توجه المعالجة التحليلية لظاهرة الانتفاضات العربية الحالية الموسومة بمصطلحات متعددة مثل “الربيع العربي” و”النهضة العربية” لدى المؤلف، وتتناوب هذه الزوايا فيما بينها لتمنحنا في النهاية رؤية تحليلية تقدم بشكل واضح العوامل التي فجرت هذا الانتفاضات العربية، وترصد الآليات التي تحكمت في رسم امتداداتها وتطورها، كما تلقي الضوء على المتغيرات التي ستحملها مستقبلا.
وتبقى أولى هذه الزوايا التي يطالعنا بها الكاتب، تلك التي تعتبر الانتفاضات العربية شكلا من أشكال النهوض الحضاري الذي يتجاوز المفهوم الكلاسيكي للثورة، القائم على تغيير أنظمة الحكم سياسيا واقتصاديا وحتى ثقافيا نحو مفهوم جديد قائم على ترسيخ قيم المواطنة وحرية التعبير والمحاسبة السياسية، بعدما لم تعد الشعوب العربية قادرة على احتمال مزيد من المهانة، فانفجرت لتتحرر سياسيا وثقافيا، ولتلتحق من ثم بركب التقدم والحداثة. ويشدد الكاتب على أن المفاهيم التي أرستها الثورة الفرنسية مثل العدل والمساوة والإخاء، تسعف على نحو حاسم في إسناد رؤيتنا للانتفاضات العربية الجارية وللقيم التي تسعى لترسيخها وهي تصنع التحول في البلاد العربية.
وفي مستوى آخر من النظر إلى هذه الانتفاضات العربية، يبرز الكاتب، وهنا تتشكل نواة الزاوية الثانية التي تنتظم وفقها المعالجات التحليلية للكتاب بخصوص هذه الظاهرة، أن تلك الانتفاضات العربية تتخذ شكل مسلسل سياسي واجتماعي وثقافي، يخضع لمنطق تطوري، سوف يستغرق عقدا أو عقدين من الزمن. ومن الأسباب التي تطيل عمر الانتفاضات في البلدان العربية قبل أن تحصد نتائجها، تبقى تلك المتصلة بعوائق التخلف والتهميش، وتتصادم مع عقل محكوم بمخلفات الماضي، مما يجعل الانتفاضات تبلغ أهدافها مع اكتمال نضج وتجدر قيم بعينها في المجتمع العربي مثل الممارسات السياسية الحرة والنزيهة، والاختلاف السليم واحترام حقوق الأقليات الضرورية لكل ديمقراطية. ومن مسوغات هذا الامتداد والاستغراق في الوقت عدم اقتصار الثورات على الأنظمة العربية الجمهورية بل انتقال تأثيرها الى الأنظمة الملكية التي بدأت بدورها تتعرض لغضب شعوبها. بعض هذه الأنظمة الملكية يحاول القيام بإصلاحات سياسية وإن كانت محدودة مثل المغرب والأردن وبعضها يفضل الرهان على الآليات الكلاسيكية.
وتقودنا الزاوية الثالثة التي توجه أفكار الكتاب، نحو رؤية تستلهم عناصرها من قيم حداثية تخلخل المطلق والجاهز وتتيح الفرصة لوعي جديد يستوعب التنوع والتعدد، ويدبر الاختلاف والتابين ليصبح ميزة ثقافية وسياسية. فالكاتب يحث على ضرورة التخلي عن النظر إلى الربيع العربي بمنظار تسلسل العقائد السياسية في الحكم والسلطة، مثل الأطروحة القائلة بحلول الفكر السياسي الإسلامي بعد فشل القومية العربية واليسار بقدر ما يجب التركيز على إنشاء فضاء سياسي رحب توفره هذه الثورات لجميع الفاعلين السياسيين، على غرار ما حدث في تونس التي استوعبت الاختلافات الإديولوجية حيث بدت البلاد بحكومة يرأسها إسلامي مع وجود وزراء ليبراليين بينما تسلم رئاسة البلاد يساري قومي، وهو السيناريو الذي يعتبره الكاتب قادرا على التكرار في أكثر من دولة عربية.
وفي زاوية نظر رابعة يبسط الكاتب ملامح تصور واقعي يضع الإنسان العربي أمام تحديات موازية تتعلق بشكل النظر إلى نتائج هذه الثورات، فبنظره يستحيل تقديم الانتفاضات والثورات العربية، لحلول سحرية سريعة للواقع المتردي في العالم العربي، خاصة في الدول التي شهدت ثورات مثل تونس ومصر. وفي المقابل يعتبر أن التمسك بقيم الحرية قد يكون الزاد الأنسب لمواجهة مختلف التحديات، فالحرية توفر الممارسة السياسية الشفافة ،كما توفر أجواء حرية التعبير، والفكر الحر، وهي شروط أساسية إن لم تكن ضرورية للإبداع في إيجاد حلول للتحديات.
وما يبدو جديدا في هذا الكتاب هو سعي الكاتب في إحداث معالجة شاملة عكس بعض الكتابات التي صدرت مؤخرا حول الربيع العربي، وإن كانت قليلة جدا، وذلك بتخصيصه فصلا لكل بلد على حدة، محاولا رصد المشترك بين الدول العربية في هذا الربيع، والمميزات الخاصة ليس فقط بين الأنظمة الجمهورية والملكية بل حتى أنظمة تنتسب إلى نفس العائلة السياسية. وفي السياق نفسه، يقدم الكتاب رؤية عربية للأحداث، محترما معطيات الواقع ومستندا إلى المنهجية العلمية الأكاديمية دون التأثر بالأحداث اليومية أو السقوط في الرؤية الاستشراقية، بل محاولة فهم تطورات الربيع العربي وتأثيراته على المدى المتوسط والبعيد.
وعلاقة بهذه النقطة، يعود الكاتب إلى بداية عقد التسعينات للوقوف على النقاش السياسي والعقائدي الذي بدأته الكثير من الحركات الإسلامية في سعيها للتكيف مع التطورات الدولية، ولم يلق الاهتمام الكافي بسبب تفجيرات 11 سبتمبر الإرهابية، وجاء الربيع العربي ليجد أغلب هذه الحركات مؤهلة فكريا للتعامل مع واقع سياسي جديد، بفضل الاجتهادات التي تراكمت لديها طيلة السنوات العشرين الأخيرة، وهو ما يُلمس حاليا في مواقف حركة النهضة التونسية أساسا ،ثم الإخوان المسلمين في مصر و في باقي العالم العربي، للتكيف مع متطلبات الحداثة السياسية. ويرى الكاتب ضرورة قيام الغرب وخاصة مراكز الدراسات الاستراتيجية بإعادة النظر والتقييم لدور وطبيعة الإسلام السياسي والتعامل معه كمكون سياسي رئيسي في الساحة العربية والإسلامية.
ويتناول الكتاب من ناحية أخرى دور المؤسسة العسكرية الذي كان حاسما في بعض الدول مثل تونس ومصر ونسبيا في ليبيا واليمن، ويتعاظم دور هذه المؤسسة في سوريا بسبب الانشقاقات وسط الجنود. ويؤكد الكتاب أن التغييرات المجتمعية التي تشهدها الدول العربية تمس أيضا المؤسسة العسكرية، هذه الأخيرة التي تجد نفسها كل مرة وبإلحاح أمام مطلب شعبي رئيسي، يتجلى في حماية الوطن والديمقراطية مستقبلا وليس توفير أسباب استمرار الأنظمة الدكتاتورية.
جيوسياسيا، حاول الكتاب ملامسة التطورات التي تترتب عن الربيع العربي في العلاقات الدولية، مستحضرا معطى جديدا، ويتجلى في بدء فرض الشعوب العربية لرؤيتها في العلاقات الدولية، وأبرز عناوينها عدم الاستمرار في سياسية الخضوع ل “تعليمات الغرب” كما كان يجري في الماضي مع أغلب الأنظمة والتس سقط بعضها. في هذا الصدد، يقدم الكتاب سيناريو لشكل العلاقات مع الولايات المتحدة والذي قد يقترب نسبيا من نوعية العلاقات التي تشهدها في وقتنا الراهن واشنطن مع منطقة أمريكا اللاتينية، وهي علاقة توتر. ويرى الاتحاد الأوروبي مجبرا على البحث عن آليات للحوار مع دول الجنوب، بعدما فشلت مبادرات مثل “الاتحاد من أجل المتوسط” التي كان يرأسها عن الجانب العربي كل من الرئيسيين المخلوعين التونسي زين العابدين بنعلي والمصري حسني مبارك. ويبرز الكتاب الدينامية الجديدة التي سيفرضها الربيع العربي في النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، إذ سيجبر قادة تل أبيب على الرهان على السلام مع الفلسطينيين لتفادي عزلة حقيقية في المنطقة بل ربما حرب تهدد السلام في الشرق الأوسط.
فقد نجح حسين مجدوبي في تقديم رؤية للربيع العربي تتجاوز الأحداث اليومية نحو فهم أعمق لهذه الانتفاضات وما قد تحققه في المدى المتوسط والبعيد، وكان صائبا عندما اعتبر أن هذه الشعوب التواقة للحرية وتضحي من أجلها في ساحات المدن الكبرى مثل ساحة التحرير في قلب القاهرة كافية لضمان سيادة قيم المساواة والتعايش مستقبلا وإن كان الطريق شائكا وليس سهلا.