دخل ملف فيروس كورونا “كوفيد-19” الذي تحول إلى وباء عالمي، مرحلة جديدة من الغموض والصراع الدولي بين الصين والغرب، وذلك بعدما بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا حملة منسقة بتحميل الصين المسؤولية المادية والمعنوية وراء انتشار هذا الفيروس الذي جعل العالم يعيش فيلم رعب حقيقي. وهذه التطورات ستقود حتما إلى حرب باردة جديدة لاسيما في ظل بدء الحديث عن انتصار الصين وتراجع الغرب ولاسيما الولايات المتحدة.
الغلبة لمؤامرة الواقع
ينتقد أحد كبار المدراء الفرنسيين في عالم الاستخبارات آلان جوييه في حوار منذ شهور أجرته معه قناة “تنكير فييو” التي تبث رقميا في الإنترنت فقط قصر نظر وسائل الإعلام الدولية ومنها الكلاسيكية المعروفة التي تأخذ أجندتها عموما مما تقدمه وكالة الأنباء الدولية. ويرى تقصيرا في أغلب وسائل الإعلام بحكم عدم بحثها عما ما وراء الخبر والتأمل في الأبعاد التي قد يصبح عليها، ثم عدم رؤية بعض الأخبار الهامة التي تمر بدون اهتمام كبير لكنها تكون أساسية في أجندة الاستخبارات.
وعليه، هكذا نجد أنه بينما تنخرط وسائل الإعلام في تتبع أرقام المصابين والوفيات بسبب كورونا فيروس، واهتمامها بقلق الشركات من الوضع الحالي للاقتصاد، كانت الاستخبارات الدولية الكبرى تركز على فرضية رئيسية وهي: هل كورونا فيروس طبيعي أم فيروس متحكم فيه؟ هل تقف وراءه دولة ما أم هو نتيجة انفلات من مختبر بسبب ضعف إجراءات الاحتياطات والمراقبة؟
ويأتي اهتمام الاستخبارات والمؤسسات العسكرية بهذه الفرضيات بحكم تصورها الشامل للأمن القومي للبلاد القائم على الأسس الحقيقية للجيوبولتيك. وهي مفاهيم تغيب في التعامل اليومي في وسائل الإعلام وكثير من مراكز التفكير الاستراتيجي بل حتى لدى بعض الدول المتوسطة والصغيرة التي لا تمتلك مشروعا قوميا. وعندما يحضر مثل هذا القلق القومي في وسائل الإعلام يتم التعامل معه على أساس انتمائه إلى ما يسمى تبخيسا “فكر المؤامرة”.
وتوجد حتى الآن فرضيتان، الأولى وهي الاتهامات التي وجهتها الصين إلى الولايات المتحدة بتحميلها مسؤولية تعمد نشر الفيروس في الصين منتصف تشرين الأول/نوفمبر الماضي خلال الألعاب العسكرية العالمية في ووهان ومنه انتقل إلى العالم. وتتجلى الفرضية الثانية في الرد على الهجوم الصيني وهو الرد المنسق بين بعض الدول الغربية ويؤكد مسؤولية الصين في انتشار الفيروس وإن كان بشكل غير متعمد. وتتسلح كل فرضية بأطروحة علمية.
الفرضية الصينية
عندما كانت الصين تعاني من انتشار الفيروس، ظهرت أصوات حكومية تتهم الولايات المتحدة بالتسبب في انتشار الفيروس بشكل متعمد لضرب القوة الاقتصادية الصينية وعرقلة تحولها إلى الدولة الأولى خلال العقد المقبل. وجاء الاتهام في تغريدة للناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو لي جيان يوم 13 آذار/الماضي الماضي بقوله “متى ظهر المرض في الولايات المتحدة؟ كم عدد الناس الذين أصيبوا به؟ ما هي أسماء المستشفيات؟ ربما جلب الجيش الأمريكي الوباء إلى ووهان، تحلوا بالشفافية وأعلنوا بياناتكم، أمريكا مدينة لنا بتفسير”. الرواية الصينية تتهم البنتاغون بتطوير الفيروس في مختبر في ولاية ميريلاند جرى إغلاقه في ظروف غامضة خلال الصيف الماضي.
وترتكز الفرضية الصينية على عالم كبير وهو تشونغ نان شان الرئيس السابق للهيئة الطبية في الصين والعالم الذي كان وراء اكتشاف فيروس سارس سنة 2003 الشبيه بكورونا فيروس قال منذ أيام “كورونا فيروس جرى رصده في الصين بالفعل ولكن لا توجد أدلة على أنه صيني المصدر” وهو بهذا يؤكد على وصول الفيروس من الخارج. ويعد هذا العالم مرجعا في عالم الفيروسات المتعلقة بالتنفس.
الفرضية الغربية
وبعد مرور شهر على الاتهام الصيني للولايات المتحدة، بدأ الغرب وخاصة المحور الثلاثي “الولايات المتحدة–فرنسا–بريطانيا” بتوجيه اتهامات إلى الصين وتحميلها مسؤولية هذا الفيروس. ولا يعتمد الاتهام الغربي على فكر المؤامرة المباشرة، أي اتهام الصين عمدا بنشر الفيروس بل على التستر عن وقوع حادث. وهكذا وفي يوم واحد، الخميس من الأسبوع الجاري، صدرت ثلاثة اتهامات من المحور الثلاثي ضد الصين. وجاءت أولى التصريحات من الجانب الأمريكي في تصريحات الرئيس دونالد ترامب ثم وزير خارجيته مايك بومبيو بالتركيز على الغموض الذي يلف هذا الملف.
في الوقت ذاته، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حوار أجرته معه “فاينانشال تايمز” إن “هناك فجوات في إدارة الصين لأزمة فيروس كورونا، وقعت أشياء ولا نعرفها”. وبدورها انخرطت لندن في الاتهامات، وجاءت بشكل واضح على لسان كل من رئيس لجنة الخارجية في مجلس العموم توم توجيندات ورئيس لجنة الدفاع توبياس إلوود بضرورة فتح تحقيق دولي بشأن الصين ومعرفة المريض صفر، أي أول مريض. وتلتزم دول مثل ألمانيا وإيطاليا واسبانيا الصمت، ولم تنخرط في هذا الجدل.
وتقوم الاتهامات الغربية للصين على نقطتين متشابكتين وهما، إجراء علماء صينيين تجارب على فيروس كورونا وخرجت عن السيطرة ووقع انفلات بسبب ضعف الإجراءات الوقائية في مختبر خاص بالفيروسات في ووهان. ولهذا ظهر هذا الوباء في هذه المدينة التي تعد المصدر الأول للفيروس الذي تحول إلى وباء عالمي. ويستبعد أصحاب هذه النظرية استهلاك الحيوانات في سوق بالمدينة كمصدر للوباء بحكم أن الإنسان يستهلك منذ آلاف السنين الحيوانات ونادرا ما ينتقل إليه المرض والفيروسات القاتلة.
والتفسير العلمي المساند لهذه الفرضية هو ما صدر عن الفرنسي لوك مونتانييه هذا الأسبوع وهو مرجع عالمي في عالم الفيروسات بعدما اكتشف فيروس السيدا في بداية الثمانينات وحصوله على جائزة نوبل للطب سنة 2008. وتتجلى أطروحة هذا الباحث الفرنسي في قيام بعض العلماء بمحاولة إنتاج لقاح ضد فيروس الإيدز، مبرزا وجود عناصر من فيروس السيدا “إتش.آي.في” في جينوم (المادة الجينية) لكورونا فيروس. لوك مونتانييه في حوار مع القناة الفرنسية “سي نيوز” هذا الأسبوع، يؤكد أن ما توصل إليه ليس بجديد بل هناك فريق علمي من الهند نشر دراسة في مجلة علمية حول وجود عناصر فيروس السيدا في كورونا فيروس، لكنه تعرض لضغط كبير، وجرى سحب الدراسة من المجلة. هذا الباحث، وعكس ما تناولته وسائل الإعلام الدولية، لا يتهم الصين علانية بل يؤكد وجود تجربة خرجت عن السيطرة في مختبر ما في هذا العالم، مؤكدا أن البحث العلمي المسؤول هو المؤهل الوحيد للحسم في هذا الموضوع.
ويبدو وكأن هناك تابو حول هذا الموضوع، فبعض العلماء يرون أنه ليس أخلاقيا الترويج لوجود أجزاء من فيروس السيدا في كورونا فيروس، لأن هذا سيخلق الهلع وسط الرأي العام. وكانت أخبار طبية قد انتشرت تفيد باستعمال بعض الأطباء في البدء دواء السيدا ضد هذا الفيروس التنفسي.
مقدمة لحرب باردة
وتبقى مدينة ووهان محور هذه المؤامرة، فهي تحتضن مختبرا يعمل على عائلة كورونا فيروس، وبالتالي عملية تسرب الفيروس من المختبر إلى الشارع واردة وحصلت في الماضي في بعض المختبرات ولكنها لم تخلف أضرارا. في الوقت ذاته، يمكن التفكير في استغلال دولة ما وجود هذا المختبر وضعف الإجراءات الوقائية، وعمدت إلى نشر الفيروس.
وعموما، الاتهامات المتبادلة بشأن الفيروس بين الصين والغرب قد يتحول إلى منعطف تاريخي سيسرّع من الحرب الباردة بين الطرفين. وتستمر الصين في الاعتقاد في مسؤولية الولايات المتحدة في نشر الفيروس لعرقلة التطور الصيني وتحول هذا البلد إلى أقوى دولة. ومن جهة أخرى، تعتقد الدول العميقة في الغرب في مناورة صينية لتوجيه ضربة قاسية للاقتصاد الغربي.
هيمنة فكر المؤامرة على نشأة كورونا فيروس لاسيما بين قطبين، الغرب والصين يمتلكان قوة البحث العلمي والبروباغندا، سيجعل من الصعب في الوقت الراهن معرفة المصدر الحقيقي للفيروس، وربما في المستقبل المتوسط أو البعيد.