إسلامولوجيا” أم شبكة العنكبوت؟ الدكتور أحمد الطاهري

قصر الحمراء في غرناطة

ليس هناك فيما بين المهتمين بالأندلس من لا يعترف بالمجهود الضخم الذي بذله مشاهير العلماء الإسبان الذي أفنَوا أعمارهم في سبيل إنارة الطريق أمام البحث العلمي وتفانَوا – بحكمةٍ واقتدار  – للرفع من شأن المؤسسات العلمية ببلدهم. وقد أفلحوا، بواسطة ما أنتجوه من أعمال جليلة وبتكاثف جهودهم مع زملائهم من بلدان أخرى، في التعريف بالأندلس وحضارة دار الإسلام في عموم بلدان الغرب، طوال الفترة المُمتدَّة من نهايات القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين.

وباستثناء بعض الأقلام من شاكلة ماريا خيسوس فيغيرا مولينس، لا يخفى كيف جبَل الجيل اللاحِقُ من المستعربين الإسبان على التقليد بإعادة نشر وترويج أعمال الرُّواد. وهو  ما انعكس مع مرور الزمن سلباً على مِصداقيَتهم، إذ تحوَّلت شُعَب وأقسام الدراسة بجامعاتهم إلى ما يُشبه حلقة مفرغة. ومع العجز عن مُتابَعة المسار الذي رسمَه المشايخ والأقطاب، من الطبيعي أن تنزلق الأقلام في دروب الاجترار.  فما كان عندئذ إلاَّ أن سَال المِداد مِهراقاً في بحر زاخر بالآراء المُتصارعة والمواقف المتلاطِمة والتصوُّرات المتبايِنَة والتحاليل المتشعِّبة. ولا يخفى كيف اندَرَج البعض – خلال زمن الرَّخاء – على توفير الغِطاء الأكاديمي الذي استُعمِل في النزول بالأندلس إلى مدارك العامة وإفراغ تُراثها من مضامينه التاريخية، وقد تمّ تحويلها جُملةً إلى بضاعة غرائبية معروضةً للبيع في سوق السياحة.

ومع خفوت الحِسّ العلمي واستِفحال الضجيج الإعلامي وشيوع الغموض، من الطبيعي أن يرتفع صوت الجهل وتنبسط شبكة العنكبوت المُخادِعَة. ولا نستَغرِب كيف اندرجت دور النشر على إصدار كُتبٍ من صنف: “عندما كنَّا عرباً” لمؤلفه إيميليو غونثالث فِرِّين الذي يُقدِّم نفسه باعتباره “أستاذا للدراسات العربية والإسلامية” وتارة باعتباره “إسلامولوجيا؟” وطوراً باعتباره “مؤرخا مُختصّاً في دراسة أصول الإسلام وتطوره”. وبهذا الكُتيِّب طمَح المؤلف – حسبما هو مُثبتٌ في الغلاف – إلى “تجاوز الاستشراق”. إلا أن القلم لم يُطاوِعه إذ سقط منذ الوهلة الأولى – وهو متأهِّبٌ للمسار –  في خلطٍ فاضحٍ بين العصور  الذي سبق أن وقع فيه الاستشراق.

ومن البديهيات المُتعارَفة، سواء في الواقع التاريخي أو في مصادر  المعرفة، أن الهوية الاجتماعية الأندلسية لا يُمكِن بأي حال من الأحوال مُطابَقتُها بالهوية العِرقية العربية. والجدير بالذكر أن رواد المستشرقين هُم الذين اختلطت عليهم العصور فصاغوا كيانات وهمية من شاكلة “إسبانيا العربية” أو”البرتغال العربي”. ولا بأس في ذلك، إذ كانوا حينئذ في مرحلتهم الابتدائية بصَدَد إجهادِ أنفسهم لهجاء ما وقع بين أيديهم من المخطوطات العربية. ومن المعلوم أن الوطنيون المغاربة المنخَرِطون في الأحزاب الاستقلالية ونُشطاء الحركة القومية العربية هم الذين صاغوا مصطلح “المغرب العربي” المبتدَع بمفهومٍ عرقي لا يُطابق واقع المغرب.

ومن المفيد التذكير – حسبما اختبَرناه طِوال مسارنا العلمي على مدار أربعين سنة خلت من البحث التاريخي، أن ليس هناك مصدراً عربيا واحداً من مجموع المصادر الأندلسية والمغربية والمشرقية ينعَت الأندلسيين بكونهم عرباً، وقد ظل الإجماع قائِماً على تسميتهم – بكل بساطة – باسمهم. ومِمَّا لا يُصدَّق أن يكون أستاذاً جامِعيا ذاكَ الذي يقتَبِس مفهوماً مُهتَرِئاً وبدون أصلٍ تاريخي ليَخلِطه – فيما يُشبه سلاطة – بمفاهيم آخر  صيحات العصر. وفي تقديرنا أن الداعي إلى ذلك، خلَلاً مَا في تكوينه ورغبة في إشاعة الخلط والغموض في أوساط الشباب حتى يتمكن من تحويل مساراتِهم عن طريق البحث العلمي للزَّج بهم في متاهاتِ الهُراء.

ولا يخفى كيف يعتَدُّ المؤلف بنفسه مُفتخراً أن كتابه المخصَّص للإسلام “قد أفلح، أخيراً، في فصل الثقافة عن الدين”. والمفروض إضافة القول: “بواسطة خليطٍ من الألفاظ المُتَهافِتة في كل اتجاه”، حتى يتِمّ الانسجام مع المضمون.  ولا يحتاج المرء أن يكون متخصِّصاً كي يعلم أن “الدين والثقافة” قد ظلاَّ منفصِلين في الفكر وخِطط الحُكم، طوال قرونٍ من تاريخ الأندلس؛ وإن كانت أقسام الدراسات العربية والإسلامية الحالية بالجامعة الإسبانية لا تتوفر على السلطة العلمية الكافية لتوضيح ذلك.

إنه لمِنَ المُقلق أن يكون أستاذا جامعيا ذاك الذي يُصرَّح أن رغبته “تحوم حول فكرة تسعى إلى الهدم والتكسير، بتحليل أصول النص القرآني وما يُسمَّى بالتأريخ الوسيط”. وهو العمل الذي يتطلَّب – قبل البدء في الإنجاز – تكوينا علميا متيناً في كتب التفسير المُصنَّفة بالخط العربي الفصيح (لغة العلوم ذات الأبعاد الكونية خلال العصر الوسيط) من طرف نُخبةٍ رفيعةَ المستوى من الفلاسفة الحكماء ومشاهير اللغويين وكبار علماء الدِّين من مختلف المذاهب والأديان. ويتطلَّب أيضا مجهوداً في اكتساب المعارف بواسطة القراءة في المصنفات الموضوعة من طرف الأندلسيين في علم الكلام. ومن البديهي، حسب القواعِد المتعارفة في مناهج البحث العلمي، أن يكون المرء المُقبِل على تحليل متن القرآن على علمٍ بنتائج الأبحاث المُنجزة من طرف أبرز العلماء المختصِّين  في هذا الشأن.

أمَّا وقد أعطى المؤلف بظهره لكل هذا، فقد وافَقَ شِنٌّ طَبَقَهُ بالنَّعت الذي أضفاه على نفسه: الهادِمُ المُكَسِّر. تجدنا إذاً أمام صنفٍ جديد من الأساتذة الجامعيين ممَّن اقتحم الحرَم الجامعي لتكسير قواعد البحث العلمي، مُسَبِّباً ضرراً فادِحاً بمصداقية شعبته الدراسية.  وسواء في هذا الكتاب أو في غيره من أعمال المؤلف، يتعلق الأمر – على وجه التحديد – “بفكرة تسعى إلى الهدم والتكسير، وتتغذى  بالخطابات السامة الموجَّهة للعامة من خلال الفضائيات المفتوحة ومختلف وسائل الإعلام على مدار أربع وعشرين ساعة لتفكيك الدول والتصفيق للحروب وزرع الكراهية والأحقاد بين الشعوب والأمم”.

وأمام هذا الفراغ العلمي المُقلِق الذي يسود في شُعَب الدراسات العربية والإسلامية وفي أقسام دراسية مشابِهة بالجامعة الإسبانية، لم يعد هناك من سبيل لاستقطاب الأنظار إلا بالنفخ في الألفاظ والاختباء وراء عبارات مفخَّمَة وصياغة مصطلحات مُزخرَفة وابتداع مفاهيم مُثيرة حسبما يتجلى من فهرس الكتاب، من شاكلة: “ميطودولوجيا؟، “إسلامولوجيا!” ازدحام إبيستيمولوجي، حداثةٌ سَائِلة… إلخ”. ويتعلق الأمر بتقنية طالَمَا استُعمِلت، خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، من طرف مؤلفين مغاربة منخرطين في الأحزاب السياسية، بهدف الإمساك بتلابيب مُخاطِبيهم وإثارة إعجاب تلامذتهم وانتفاخ أنانيتهم وسط أمثالِهم من ضُعفاء التكوين.

ولا نستَغرِب من اعتراف المؤلف بكونه تلميذا مُخلِصاً لإغناسيو أولاغي صاحب كتاب “إن العرب لم يفتحوا أبداً إسبانيا” وقارئاً مُقتَنِعاً بأوهامه التي ترفض الاعتراف بفتح الأندلس واندماج الغرب في دار الإسلام، على إثر مبادرة طارق بن زياد المشهودة سنة 711م. إن الامتناع – تعَصُّباً – عن الإقرار بما حدَث والسعي لاقتلاع جذور الأندلس من سِجِلاّت التاريخ  قد بلغ بواسطة كتابات وأقوال المؤلف وأستاذه وأتباعِهما حدَّ الهذَيَان باقتراح طمس مصادر المعرفة التاريخية، لا يهُمُّ إن كانت كتابات عربية أو حوليات إسبانية. ولا يخفى كيف عمَد أمثال هؤلاء في فتراتٍ سابقة إلى إحراق الكتب وإتلاف المكتبات، بدافع الكراهية وظُلمات الجهل. والجدير بالذكر أن أولاغي ذو تكوين في علم الإحاثة والأحافير، ولا تُشَكِّل الأندلس إلا هِوايَة من ضمن هواياته الأدبية والسينمائية، وليست لديه أدنى فكرة عن المصادر العربية ولا معرفة بحروف الهجاء. ومعلومٌ أنه كان من نشطاء الكتائب الإسبانية، منخرِطاً في وحدات الهجوم الوطنية النقابية.  

“عندما كُنا عرباً” !! يُذَكِّرُي بمَهزلةٍ سابقة صاغها المؤلف ضمن كتابٍ آخر زاعِماً أنه يَشتمِل على “تاريخ الأندلس العام”. ويتعلق الأمر بما يُشبه مُفرقَعاتٍ اصطناعية تطايَرت شرارارتها كما اتَّفَق في كل اتِّجاه. وللتَّستُّر على مهازله وضحالة تكوينه، لم يدَّخر المؤلف وُسعاً في الاختباء وراء أسماء علماء الأندلس الشامخة وهامات حُكماء وفلاسفة بلدان الغرب الوازنة. ولخِداع قُرَّاءِه واستِقطاب اهتمام وسائل الإعلام، سارَع إلى تزيين واجهة كتابه بعبارة “أروبا بين الشرق والغرب” المُستوحَاة من غلاف كتاب المؤرخ الفرنسي بيير كيشار الشهير في تاريخ الأندلس.

وفي كِلاَ الحالتين، لا يخفى سعيُه للنَّيل من ذكاء قُراء اللغة الإسبانية بواسطة التصريح: “إننا أمام أحد أهم الكتب التي كُتِبَت عن تاريخ الأندلس”. وينطوي هذا التقويم السَّفيه على إهانة علَنِية لنُخبةٍ رفيعة المستوى من كبار المستعربين الإسبان من أمثال: فرانسيسكو كوديرا، ميغيل أسين بلاسيوس، خوان ريبيرا، باسكوال غايانغوس، خوسي أنطونيو كوندي، إيمليو غارسيا غومس، أنخل غونساليس بالِنثيا، وغيرهم. كما ينطوي وضع أحدِ المُبتدئين في مرتبة مشاهير العلماء المختَصِّين في تاريخ وحضارة الأندلس مثل الهولندي رينهارت دوزي والفرنسي إيفاريست ليفي بروفنسال والبرتغالي دافيد لوبيس وآخرين، على لؤمٍ واستِخفَافٍ بأرواحهم النبيلة.

الدكتور أحمد الطاهري

أستاذ التعليم العالي مختص في تاريخ المغرب والأندلس

Sign In

Reset Your Password