بلغت الثورة التونسية على نظام زين العابدين بن علي ذروتها مع حلول كانون الثاني (يناير) 2011.
في نهاية الأسبوع الأول من ذلك الشهر شاركتُ في نقاش تلفزيوني حول تونس مع السياسي التونسي المنصف المرزوقي الذي كان منفيا في أوروبا آنذاك. كان الرئيس بن علي بدأ يبدي بعض الليونة من قبيل الانفتاح على إصلاحات سياسية ودستورية والقبول بالمعارضة وغير ذلك. كنت من الذين اعتقدوا أن ذلك تنازل من بن علي يجب على التونسيين اغتنامه والبناء عليه نحو مطالب أكثر، لكن رأي المرزوقي كان مختلفا تماما. ظل صارما وحادا في كلامه معتبرا أي كلام آخر غير السقوط بمثابة شتيمة. بقي متمسكا بأن بن علي يجب أن يسقط ويكرر عبارة «سيسقط الطاغية» مرة تلو الأخرى. قلت في قرارة نفسي إن هذا الرجل حالم كبير بينما تونس اليوم في حاجة لواقعية لا إلى أحلام.
بعد أربعة أيام سقط بن علي. في تلك الليلة صاح حالم آخر صيحته الشهيرة في أحد شوارع العاصمة تونس وسط سكون ليلي مخيف: يا توانسة بن علي هرب، المجرم هرب!
لديّ أصدقاء سوريون عانوا ويلات نظام سلالة الأسد كلٌّ على طريقته. يشتركون جميعا في المعاناة وفي رغبتهم الشديدة في رؤيته يسقط. لكنني لا أعرف سوريين كثيرين آمنوا بأنهم سيرون هذا السقوط في حياتهم. ليس سرا القول إن أسبابا موضوعية جعلت اليأس يستبد بنفوس الأغلبية الساحقة من السوريين، حتى أصبح حديث بعضهم عن سقوط الأسد يثير تندر أقرانهم العرب.
ورغم ذلك سقط نظام الأسد شرَّ سقوط ضاربا بكل التوقعات والتحليلات السياسية عرض الحائط. سقط بسهولة شديدة قد تجعل المرء يتساءل لماذا لم يتجرأ السوريون على فعلها من قبل. سقط بعد 13 عاما من التاريخ المفترض لسقوطه، أي عندما اعتقد العالم، وأغلب السوريين، أنه لن يسقط لأنه تجاوز خطر السقوط؛ وعندما أحضره العرب إلى قممهم الفاشلة وأعادوه إلى جامعتهم الكسيحة وفتحوا له سفارات في دمشق واستقبلوه في قصورهم الفخمة بسجاد أحمر طوله كيلومترات؛ وعندما اقتنع العالم بأن لا مناص منه ومن إعادة تدويره عملا بمقولة مَن تعرفه أفضل لك من الذي تجهله.
من المهم هنا الإشادة بالسوريين (وغيرهم) الذين، مثل المرزوقي، تمسكوا بأمل سقوط الديكتاتور وسط الإحباط وظلام اليأس الطويل. وفي المقابل، لا لوم على مَن نالت منهم الخيبات واستبد بهم اليأس.
هناك عبرتان في كل ما سبق. واحدة للشعوب وأخرى للحكام، والعرب الطغاة منهم خاصة. أما العبرة المشتركة للحكام والشعوب معا فهي أنه لا يوجد مستحيل مع عجلة التاريخ.
على الشعوب أن تؤمن بأن التغيير حتمية إنسانية وصيرورة إنسانية لأن دوام الحال من المحال. فكل ليل ومهما طال وكان حالكا يعقبه بالضرورة ضوء النهار. أن يتأخر التغيير ليس معناه أنه لن يأتي. وألَّا يحدث تغيير في حياتك لا يعني أنك تتوقف عن المحاولة أو أنه يصبح غير مهم وألَّا حاجة للآخرين به. لقد كرّر أجدادي في الجزائر انتفاضاتهم على الاستعمار الفرنسي عشرات المرات منذ دخوله في 1830، وصمَّموا على التكرار بمعدل مرة كل عشرة أو خمسة عشر عاما، وفي كل مرة يدفعون ثمنا باهظا من أرواحهم وممتلكاتهم، إلى أن جاءت سنة 1954 فكان القول الفصل وثورة أعقبها نصر كنس فرنسا كنسا من أرضهم.
أما الطغاة فلهم في هروب الأسد درس مجاني ثمين وعبرة بليغة. عليهم أن يحوّلوا الخوف الذي ينتاب بعضهم اليوم إلى ناقوس إيجابي. سيكون من الغباء السياسي بعد الآن أن يقول أحدهم «لا، ليس أنا» أو «نحن شيء مختلف عن الآخرين» وغيره من مثل هذا الكلام. سيقت العبارات ذاتها في 2011، فقالوا في تونس إن بن علي بنى نظاما أمنيا يستحيل إسقاطه، ثم سقط. وبعد تونس قال أزلام النظام في القاهرة إن «مصر حالة خاصة مختلفة عن تونس» وبعد أسابيع سقط حسني مبارك. بعد مصر قال غلمان القذافي في ليبيا إن النظام عندهم مبني بشكل يجعله عصيًّا على الصدمات، فاتضح أنه ليس نظاما أصلا وسقط بسرعة مثل الآخرين. إلى أن وصل دور الأسد فقيلت العبارة ذاتها ولم يسقط نظامه.
تباهى حلفاء الأسد آنذاك بأن رجلهم أفلح في إثبات خطأ الاعتقاد السائد وفي أن يكون الاستثناء لقاعدة السقوط بحنكته وذكائه. فاتهم أن الأمر مجرد تأجيل لسقوط محتوم وأن السؤال هو متى وليس هل.
اليوم يجب أن تصبح عبارة «الآخرون وليس نحن» مرادفا للتضليل والغدر في قاموس الحكام العرب. عليهم التوجس منها قدر المستطاع.
العبرة أنك إذا نجوت مرة لا يعني أنك ستنجو إلى الأبد، وأن نجاتك لا تعني ضوءا أخضر للمضي في طغيانك وفسادك، بل فرصة سماوية لتراجع حساباتك وتتدارك أخطاءك.
القضية الأخرى هي خطأ التمسك بالاعتقاد أن الأسد ضحية عوامل خارجية اجتمعت ضده، وبسبب إفراطه في الاستبداد وقمع شعبه. هذه القراءة سليمة إلى حد كبير، لكن القراءة الأخرى، والتي لا تقل أهمية، أن الأسد سقط أيضا بسبب فشله الاقتصادي وعجزه عن فعل أيّ شيء يذكر لاقتصاد سوريا عدا توفير مسببات النهب والفساد وثراء العائلة والأقارب.
مشكلة الحكام العرب، باستثناء دول الخليج لظروف خاصة ببلدانهم، أنهم عدا عن القمع الذي جعلوه أسلوب حكم، قادوا بلدانهم إلى أوضاع اقتصادية لا تقل سوءا عن وضع سوريا. ومن غير المستبعد، إذا ما توفرت بعض العوامل، أن تكون الظروف الاقتصادية والمعيشية للناس هي الصاعق الذي سيشعل ثورة تفعل بهم ما فعل زحف السوريين بالأسد.
أتمنى أن تكون نهاية طاغية دمشق فرصة لأقرانه العرب ليتذكروا بأنهم يشبهونه، وبأن لا شيء يمنع من أنهم قد يلقون مصيره، وأن «إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر» ليست مجرد قصيدة أطلقها أحدهم وانصرف لشأنه. لعلهم يعتبرون فتكون العبرة في مصلحتهم ومصلحة شعوبهم.