بعد موجة اليسار التي سيطرت على حكومات دول أمريكا الجنوبية والوسطى طيلة العقد الماضي، وحتى منتصف العقد الجاري، صعد اليمين ومنه الشعبوي كما هو الشأن في البرازيل إلى السلطة، لكنه بعد مرور ثلاث سنوات، يعاني ولن يصمد كثيرا، وعادت شوارع هذه المنطقة من العالم لتسجل تظاهرات عارمة ضد عودة الليبرالية المتوحشة، حتى في تشيلي التي تعتبر واحة الديمقراطية والاستقرار في المنطقة. ومنذ نهاية التسعينيات وحتى سنة 2016، تحولت أمريكا الجنوبية إلى منطقة لليسار الجديد، المختلف عن اليسار الكلاسيكي، فهو يسار في ثوب اجتماعي قريب من الانشغالات اليومية للمواطنين، التي تخص العمل والتغذية والكرامة. ومن أبرز ممثلي هذا التيار الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز والرئيس البرازيلي الأسبق لولا دا سيلفا المعتقل بتهمة الفساد، في ملف بسيط للغاية يعتبر انتقاما أكثر منه إقرارا للعدالة، وكذلك رئيس الإكوادور السابق رافائيل كوريا، أو الرئيس الحالي لبوليفيا إيفو موراليس. وبعدما فقد اليسار الكثير من مصداقيته بسبب ملفات الفساد، ورغبة المواطنين في التجديد السياسي، جاءت موجة اليمين وهذه المرة الليبرالي المتطرف والشعبوي، وصادفت وصول القومي الشعبوي دونالد ترامب إلى رئاسة البيت الأبيض، ما أعطاها زخما سياسيا كبيرا.
عيش اليمين الشعبوي والتقليدي الآن مشاكل كبيرة بعد مرور سنوات قليلة على توليه السلطة. في هذا الصدد، انتفض الشعب الإكوادوري منذ أسبوعين، خاصة السكان الأصليين، ضد الرئيس لنين مورينو الذي رفع أسعار المحروقات وبعض المواد، تلبية لمطالب المؤسسات المالية الدولية ومنها، البنك الدولي. وورث لنين دولة ذات اقتصاد قوي نتيجة رئاسة اليساري رافائيل كوريا، والمثير أن لنين مورينو كان نائبه، ولكن ما إن وصل للسلطة حتى أصبح ليبراليا متوحشا. واضطر الرئيس إلى إلغاء الزيادة في أسعار المحروقات بعد الاعتصامات والاحتجاجات المتواصلة، وسقوط قتلى التي كادت تعصف برئاسته، لاسيما بعدما أعلن مؤقتا حالة الاستثناء.
وانتقلت شرارة الاحتجاجات إلى تشيلي خلال هذه الأيام، هذا البلد يعد واحة للاستقرار السياسي، ويعيش ديمقراطية حقيقية إلى مستوى تشبيهه بدول أوروبا الشمالية مثل، السويد والنرويج. وحافظ الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم بعد النظام الديكتاتوري الدموي بزعامة الجنرال أوغستو بينوشيه على إيقاع هادئ في الحكم، ولعب دور الوساطة في النزاعات بين دول المنطقة. لكن الرئيس الجديد القادم من اليمين الليبرالي المتوحش، سيباستيان بنييرا قام بالرهان مجددا على الليبرالية المتوحشة اقتصاديا، وفي ظرف ثلاث سنوات خلق فجوة في المجتمع التشيليني، ما أدى حاليا إلى الانتفاضات التي كانت شرارتها الرفع من أسعار تذاكر المترو، وانتهت بنزول الجيش إلى الشارع.
ويعيش الرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري صعوبات سياسية حقيقية، بعدما انهزم في الانتخابات الأولية لرئاسة الأرجنتين الشهر الماضي، أمام ألبرتو فيرنانديث بفارق قارب 16% وستجري الجولة الثانية الأحد المقبل، إذ من المحتمل فقدانه للرئاسة بعد ولاية واحدة فقط. ومن ضمن أسباب فشل ماكري رهانه على الليبرالية المتوحشة التي جعلت المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي تعود إلى فرض شروط على الاقتصاد الأرجنتيني، بعدما كان هذا البلد قد بدأ يتخلص من هيمنة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وتبقى الأضواء ملقاة على الرئيس البرازيلي بولسورانو هل سيؤسس يمينا متطرفا جديدا في جنوب القارة الأمريكية أم لا؟ في هذا الصدد، لم ينح بولسورانو في إقامة نظام يميني متوحش، فهو لم يصل إلى ديكتاتورية بينوشيه في تشيلي سابقا، ولا يتوفر على قاعدة انتخابية صلبة معادية لليسار مثلما يحدث في كولومبيا، ولكنه قد يكون نقطة انطلاقة لهذا اليمين المتطرف في أمريكا اللاتينية، إذا انهارت الحواجز الديمقراطية التي تمنع التطرف.
وبدأت شعوب أمريكا اللاتينية تكتشف أن رهانها مجددا على اليمين خاصة الشعبوي، بدأ يجلب مشاكل بنيوية، ففي ظرف وجيز فقدت الكثير من الامتيازات الاجتماعية التي أرستها أنظمة يسارية، وساهمت في الاستقرار الاجتماعي والسياسي، بل عادت هذه الأنظمة اليمينية إلى تقديم المنطقة إلى المؤسسات المالية الدولية، والشركات المتعددة الجنسيات بسبب محاربة القطاع العام لصالح الخاص. في الوقت ذاته، اكتشفت هذه الشعوب أن عند كل أزمة ولو اجتماعية بسيطة، يهرع رؤساء اليمين إلى إعلان حالة الاستثناء، وتوظيف الجيش في مواجهة الشارع، ويكفي تصريح رئيس تشيلي الذي وصف الاحتجاجات الحالية بأنها إجرام منظم، ووصف المتظاهرين بالعدو القوي، وبالتالي أنزل الجيش إلى الشارع.
لقد نزلت الشعوب إلى الشارع للدفاع عن حقوق انتزعتها عبر نضالات مريرة، ويبدو أن اليمين الحاكم في أمريكا اللاتينية لن يعمر طويلا، وستقوم صناديق الاقتراع بطرده، وربما التظاهرات أيضا، إذا استمر في تطبيق ليبرالية متوحشة. وهذا سيعطي لليسار فرصة جديدة للحكم، وربما سيعود هذه المرة إلى السلطة بعدما يكون قد استفاد من عقوبة الناخبين ضده بسبب تساهله مع الفساد. وعمليا، رغم كل الصعوبات، قد يصوت الناخب الفنزويلي للرئيس اليساري مادورو في أي انتخابات مقبلة، ومالت المكسيك إلى اليسار مع لوبيث أوبرادور، كما فاز الأحد الماضي إيفو موراليس في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وهي ولايته الرابعة، رقم قياسي. فقد بدأ الناخب في معظم دول أمريكا اللاتينية يكتشف أن اليسار هو أحلى المرين مقارنة مع اليمين.