يركز الإعلام الغربي كثيرا على فرضية تسليح القوات الأوكرانية بمقاتلات «أف 16» الأمريكية، ويبّشر بتغيير مقبل في ميزان الحرب لصالح أوكرانيا ضد روسيا خلال الشهور المقبلة. غير أن استعمال هذه المقاتلات لن يحدث أي تغيير مثلها مثل باقي الأسلحة التي جرى الترويج لها في الماضي. هذا يدفع إلى التساؤل حول مصداقية الأخبار الواردة في وسائل إعلام، تعتبر رزينة، حول مسار الحرب ونوعية التحليلات والمعلومات.
بعد اندلاع الحرب الروسية ضد أوكرانيا، أي ابتداء من شهر مايو/أيار من السنة الماضية، بدأ تيار في الغرب مكون من سياسيين وإعلاميين وخبراء في التاريخ العسكري والعتاد الحربي، يحاولون إقناع الرأي العام الغربي وجزء كبير من العالم بقرب الحسم في الحرب، بفضل قرار الحلف الأطلسي تزويد أوكرانيا بالسلاح المتطور. وعمليا، بدأ الإعلام الغربي يطالعنا ومنذ يناير/كانون الثاني الماضي عبر حلقات بمزايا كل سلاح جديد سيمنح للجيش الأوكراني. وجرى الحديث بنوع من التشويق والمبالغة عن العتاد الغربي المتطور الذي بفضله سيحقق الجيش الأوكراني الهجوم المضاد، وسيطرد الروس من الأراضي التي احتلوها، وهي منطقة القرم ودونباس. وعمليا، كل حديث عن سلاح جديد ترافقه بروباغندا كبيرة، وهو ما حدث مع نظام الدفاع الجوي الأمريكي «باتريوت»، وتكرر بإسهاب مع صواريخ «هيمارس» ثم مع دبابات «ليوبارد». ولم ينتج عن هذه الأسلحة أي تقدم حقيقي للقوات الأوكرانية. والآن يجري الحديث عن مقاتلات «أف 16» الأمريكية، حيث قررت الدنمارك والنرويج وهولندا تزويد أوكرانيا بهذه المقاتلات. والتساؤل العريض: هل ستغير هذه المقاتلات مجرى الحرب الحالية كما يصدر عن الكثير من السياسيين والرئيس الأوكراني زيلينسكي نفسه؟ الجواب سيكون بالنفي للأسباب التالية:
*في المقام الأول، يجب انتظار على الأقل سنة كاملة حتى يستعمل سلاح الجو الأوكراني هذه المقاتلات، وهذه الفترة الزمنية قد تقع فيها تطورات، لاسيما في ظل تراجع الذخيرة لدى الأوكرانيين، وشبح التقدم الروسي نحو الوسط خلال الشتاء المقبل.
*في المقام الثاني، عدد من الدول الأوروبية تتخلى عن هذه الطائرات لصالح «أف 35» لأنها تنتمي إلى جيل سابق، ولا يمكنها حسم حرب ضد دولة قوية مثل روسيا. وتفيد التجربة أن روسيا تجد صعوبة في اعتراض بعض الطائرات المسيرة، ولن تجد صعوبة في اعتراض مقاتلات متقدمة مثل «أف 16»، لأن أنظمة الدفاع الجوي الروسي جرى تصميمها خلال الأربعين سنة الأخيرة لمواجهة المقاتلات الغربية من طراز «أف 16» و»أف 15» وأف 18» ثم «أف 35» علاوة على رافال ويوروفايتر. وبالتالي، سيكون أسهل للروس إسقاط طائرة مقاتلة مثل «أف 16» بدل المسيرات التي تعتبر أكبر تحد لأنظمة الدفاع الجوي لأنها جديدة ومفاجئة للجيوش. كما أن «أف 16» التي تتوفر عليها الدول الأوروبية تبقى دون نظيرتها الأمريكية في المناورة وتصويب القوة النارية، وستجد صعوبات في مواجهة طائرات سوخوي الروسية في الحرب الجوية.
*في المقام الثالث، لم تعد الطائرات المقاتلة تحسم الحروب، لو كانت تحسم الحروب لكانت دول الخليج قد قضت على المقاتلين الحوثيين في حرب اليمن، كما أن إسرائيل تتوفر على أكثر من 250 مقاتلة «أف 16»، ولا تنفعها لا في مواجهة حزب الله ولا إيران حاليا.
*في المقام الرابع، لم تعد لأوكرانيا قواعد كافية لحماية المقاتلات، إذ يبقى السؤال: أين ستخفي هذه المقاتلات من أعين الأقمار الاستطلاعية الروسية ومن الصواريخ فرط صوتية؟
*في المقام الخامس، كانت روسيا تعتبر التدخل العسكري «عملية عسكرية» بمعنى أنها محدودة، حيث راهنت على انقلاب القيادة العسكرية الأوكرانية ضد الرئيس لإنقاذ البلاد من الدمار، لكن روسيا الآن تعتبر أنها تخوض حربا حقيقية، وبالتالي مستعدة لكل الاحتمالات بما فيها مواجهة الحلف الأطلسي.
في غضون ذلك، توجد معطيات ميدانية لا يمكن نهائيا تجاهلها وتتلخص في تشييد روسيا لأسوار على طول 800 كلم تفصل بين شرق أوكرانيا عن باقي أوكرانيا، وتبقى عملية تجاوزها صعبة للغاية. ولهذا، لا يمكن نجاح أي هجوم مضاد ضد القوات الروسية. وكان قائد الأركان العسكرية الأمريكية الجنرال مارك ميلي قد أعرب في فبراير/شباط الماضي، أنه لا يمكن انتظار نتائج تذكر من الهجوم المضاد خلال 2023، وعاد وكرر هذا منذ أسبوعين. ويؤكد «الحرب على الأوراق شيء وفي الواقع شيء آخر حيث يموت الناس»، في إشارة إلى الفرق بين المقالات الإعلامية والواقع العسكري في الميدان. فمن نصدق رئيس الأركان العسكرية للجيش الأمريكي، أم عناوين صحف غربية وتحليلات بعض المحللين.
ومن جانبه، قال فيليبس بي أوبراين أستاذ الدراسات الاستراتيجية في جامعة سانت أندروز في أسكتلندا، لصحيفة «الغارديان» يوم 14 يونيو/حزيران الماضي: «إن أوكرانيا تحاول القيام بشيء (ربما) لم يتم تنفيذه بنجاح من قبل. إنها تحاول شن هجوم واسع النطاق باستخدام المدرعات والدبابات، من دون التفوق الجوي ضد عدو متحصن لديه ترسانة كبيرة من الأسلحة الدفاعية». كما يمكن الاستشهاد بتحليلات الجنرال الفرنسي المتقاعد دومنيك ديلوارد، الذي كان مسؤولا عن الحرب الإلكترونية في وزارة الدفاع الفرنسية، الذي قال منذ أيام «يجب أن نكون واقعيين، الجيش الأوكراني لا حظ له في مواجهة الجيش الروسي بحكم الفارق الكبير في القوة بين الطرفين»، وكان هو الرأي الذي يردده منذ اندلاع الحرب شأنه شأن عدد من العسكريين في الغرب الذين لهم دراية حقيقية بميدان الحرب وموازين القوى العسكرية. يمكن استعادة مئات المقالات التي جرى نشرها حول دور ليوبارد وهيمارس وباتريوت لتغيير مجرى الحرب، والمقارنة بين التحليلات غير الواقعية والواقع المر للحرب. وهكذا، تستمر الحرب، وتبقى المعطيات التي لا جدال حولها وهي: أوكرانيا فقدت وربما إلى الأبد أكثر من 120 ألف كلم مربع من أراضيها في شرق البلاد، التي تعد أهم الأراضي من الناحية الاقتصادية، وفقدت أكثر من أربعة ملايين من شعبها الذين لجأوا إلى الخارج، وتراجع اقتصادها بأكثر من 40%، وستحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات لإعادة البناء ستكون أغلبها قروضا، وفشلت جميع الهجمات المضادة للجيش الأوكراني ضد القوات الروسية. أوكرانيا ضحية حسابات جيوسياسية استغلت الحماس الوطني والقومي للشعب الأوكراني، وهكذا أصبح هذا البلد بين مطرقة هوس قيادة موسكو بحماية أمنها القومي، ولو تطلب الأمر تمزيق الدولة الجارة وسندان الغرب الذي يريد إضعاف روسيا من البوابة الأوكرانية حتى لا تشكل حلفا ثنائيا قويا مع الصين.