فكرة “القناع” في الإبداع فكرة شائعة، واستخدمها كثير من المبدعين في انتقاداتهم لممارسات مجتمعية أو لطرح رؤاهم وآرائهم في قضايا معاصرة، باستخدام اسم أو شخصية تاريخية أو أسطورية، أو حتى مستقاة من الحكاية الشعبية، وربما تكون فكرة “القناع” أكثر شيوعاً في الاستخدام في الشعر والمسرح عنها في الرواية.
ومن أبرز الأمثلة التي تحضرني الآن شخصية “زرقاء اليمامة” في قصيدة الشاعر المصري الراحل أمل دنقل الشهيرة حول هزيمة 1967، و”الزير سالم” في قصيدته “لا تصالح”، التي كتبها قبل أكثر من عشرين عاماً لانتقاد اتفاقية “كامب ديفيد” التي وقعها الرئيس المصري الراحل أنور السادات مع إسرائيل، والتي يستحضرها الناس بقوة هذه الأيام رغم مرور أكثر من عشرين عاماً على رحيله.
ومن أبرز الشخصيات/ القناع في المسرح “علي جناح التبريزي” للمسرحي المصري الراحل ألفريد فرج، التي ظلت تمتع الجمهور العربي منذ تقديمها على الخشبة في ستينيات القرن الماضي، ولا تزال تُمتع من يشاهدها خلال استعادتها حتى الآن
والروائي المغربي بهاء الدين الطود يستعيد في عمله الروائي الجديد “أبو حيان في طنجة” الشخصية التراثية للعلامة والفقيه الشهير “أبو حيان التوحيدي” رغم مرور عشرة قرون على رحيله عن عالمنا، ليحدثنا من خلاله عن قضايا معاصرة، بعضها عام شامل للعالم العربي و الإسلامي وأوضاعه، وبعضها الآخر خاص بالمجتمع المغربي اليوم وربما بشكل أخص في مدينته “طنجة”، وفي اعتقادي أن هذا الاختيار متعمد لما عرف عن “أبو حيان” في حياته من تمرد وحدة في النقد، فلم يتوان عن انتقاد اثنين من الأصدقاء الذين قربوه منهما رغم علمه أن كلاً منهما يمكنه أن ينتشله من فقره، وهما ابن العميد وابن عباد، وكتب في نقدهما كتاب “مثالب الوزرين”، فتسبب في إبعاده عنهما، وتجنب الناس له، وكأن الروائي يأتي بهذه الشخصية لانتقاد الواقع المرير في العالم الإسلامي اليوم، بل وفي واقع بلاده المغرب.
من اللحظة الأولى للرواية يعرض الكاتب من خلال شخصية “أبو حيان” قضية “الهجرة السرية” التي أصبحت خلال السنوات الأخيرة قضية كبرى تقض مضاجع أوروبا، والغرب بشكل عام، بسبب انتشار الفقر والجهل في بلاد جنوب المتوسط، ولم يعد أمام شباب هذا الجنوب سوى الهجرة إلى الشمال الثري، والذي بنى ثراءه من ثروات ذلك الجنوب المسروقة، حتى أصبحت تلك القضية الشغل الشاغل لبلاد مثل إسبانيا، وسبباً في العديد من المشاكل بين السلطات المغربية و الإسبانية، وكون بهاء الدين الطود درس في إسبانيا وعمله كمحام في مدينته طنجة فقد أخذ شخصية “أبو حيان”، إلى حيث تكمن خبرته و وضعه في صفة المهاجر السري المقبوض عليه في جنوب إسبانيا، وتسليمه للسلطات المغربية بسبب هيئته العربية الإسلامية، فجسد مأساة رجل وجد نفسه متهماً في قضية ما كانت تخطر على باله في زمانه، ذلك الزمان الذي كان يمكن للإنسان المسلم أن يسير فيه على قدميه من عاصمة الخلافة في بغداد حتى الأندلس، دون أن تعترضه حدود أو يسأله أحد عن أوراق ثبوتية من هوية وجوازات سفر كما هو الحال اليوم.
ليبرر الكاتب استحضار شخصية أبو حيان التوحيدي ذهب إلى تراثنا الديني مستدعياً سورة أهل الكهف، وما حدث مع أبطالها التي جاء بها القرآن ليضرب بها مثلاً، واستعار منها الكهف، ولكن هذه المرة حدد مكانه بالقرب من مدينة “المنقب” الأندلسية التاريخية أيضاً.
وبخروج الشخصية من كهف زمني استمر لألف سنة تقريباً ليقع بعدها في قبضة سلطات إسبانيا، التي ترى في كل غريب مهاجراً سرياً متسللاً، ورغم المسحة الأسطورية فإن براعة بهاء الدين الطود تصنع من الشخصية كائناً من لحم ودم، ولذلك لا يتقبل أبو حيان المهانة التي تعرض لها من قبل الشرطة الإسبانية التي تحدثه بلغة ليست من لغة أهل الأندلس التي كان متأكداً أنها كانت حاضرة إسلامية، وأنه لم يرتكب جريمة غير أنه جاء للقاء حبيبته “نهاوند”، التي تنتظره في حدائق “العريف” بغرناطة، حتى عند تسليمه إلى الشرطة المغربية في طنجة التي تتشكك في روايته، بعد أن وجد أخيراً من يتحدث لغته.
وللكشف عن الهوية الحقيقية لهذا الذي يدعي أنه الفيلسوف واللغوي تستدعي الشرطة والروائي شخصية الكاتب المغربي الشهير محمد شكري، الذي أحدثت أعماله ضجة في الحياة في المغرب وطنجة، وكأن المؤلف أراد أن يجمع نقد المجتمع من معاصر ينضم إلى صوت قادم من أعماق التاريخ.
خلال حوار وزير العدل مع “أبو حيان التوحيدي” تعود مظاهر العداء بين المثقف وممثل السلطة مجدداً، ويكشف ذلك القادم من عمق التاريخ أن شيئاً لم يتغير في تلك العلاقة، وأن الاهتمام الذي حظي به نابع من فرادة حكايته التي يمكن أن تخلق موقفاً معادياً من السلطة لو اكتشف الناس تلك الحكاية، فتودعه في فندق فخم على شاطئ طنجة.
وليوظف الروائي دور شخصية محمد شكري في الرواية فقد دفع بتلك الشخصية إلى جذب الشخصية التراثية الأخرى، وإقناعها بالهــرب من الفندق، ومخالطة المثقفين في مقاهيهم ومشاربهـــم، فيكتشف مجتمعـــاً مختلفاً، فيه فتيات تتشبهن بالرجال لم تكن على عصره: تدخنّ وتشربنّ النبيذ، وتعربدن مثلهن مثل الرجال بلا احتشام في الملبس، ولا يشبهن في شيء الجارية التي عشقها وهام بحبها “نهاوند”، والتي بسببها سار إلى الأندلس التي كان يعتقد أنها لا تزال جزءاً من العالم الإسلامي، ليقبض عليه كمهاجر سري.
وخلال جلسته مع من قدمهم إليه محمد شكري تدور حوارات حول قضايا معاصرة أخرى غير قضية الهجرة التي ألقت به إلى عالمها السري.
وهنا يتحول النص الروائي إلى عملية محاورات، أعتقد أن الكاتب بهاء الدين الطود حاول أن يقول خلالها رأيه في قضايا أدبية مثل قصيدة النثر، التي يبدو واضحاً أنها لا تعجبه، وغيرها من القضايا المطروحة على ساحة الإبداع العربي، وأيضاً لكشف ثقافة المعاصرين الضحلة التي لا تخرج عما يتصلون به من إبداع، واختفاء الثقافة الموسوعية التي كان عليها علماء القرن الرابع الهجري، مثل أبو حيان التوحيدي وغيره من علماء ذلك العصر، والتي تصل علم الكلام بالفلسفة، والشعر، والموسيقى، والغناء.
الحقيقة أن رواية “أبو حيان في طنجة” ما كان لها أن تتم بغير الاطلاع المعمق على حياة تلك الشخصية التاريخية، ودراسة نتاجها المعروف وغير المعروف بالاطلاع على نتاج معاصريها وما بعدهم، وهو جهد بذله بهاء الدين الطود ليتمكن من السيطرة على حوارات الرواية، لتكون دائماً لصالح “أبو حيان” ومجتمعه، سواء في حواره مع الشرطــــة ووزير العدل، أو مع محمد شكري ومعاصريه من مثقفي طنجة الذين ضم بينهم أصدقاء شخصيين له يعرفهم.
لكن ما يؤخذ على هذه الرواية أنها في الجزء الثاني ركزت على محاورات المثقفين، وكأنها كُتبت بهدف انتقاد الواقع الثقافي الراهـــن، ونظراً لطول تلك الحوارات.
وتشعب ما تناولته أصبحت مجرد محاورات نظرية، حاول المؤلف أن يقول من خلالها رأيه في قضايا مطروحة على الساحة الثقافية في العالم العربي بشكل عام والمغرب بشكـــل خــــاص، وربما طنجة التي تشهد حياة إبداعيــة وثقافية خاصة بها مصبوغة بصبغة عالمية، بسبب إقامة العديد من المبدعين العالميين بها.