في كتابه “الملك المظلوم”، مصطفى العلوي يرسم صورة مغايرة للحسن الثاني الذي طبع المغرب حيا وميتا

صورة الغلاف

“الملك المظلوم» اسم الكتاب حول الملك الراحل الحسن الثاني (1929-1999) الذي ألفه مصطفى العلوي أحد أبرز الصحافيين المغاربة طيلة الستين سنة الأخيرة. وبطريقته التي تجمع بين التأريخ والصحافة، يحاول مصطفى العلوي صياغة بروفايل من خلال معطيات ومواقف إنسانية وحالات سياسية للحسن الثاني تدعو القارئ إلى تغيير رؤيته للملك من صفة الظالم إلى صفة المظلوم دون تبرير الخروقات التي وقعت في حياته من فساد واعتقالات أبشعها سجن تازمامارت الرهيب واغتيالات في صفوف السياسيين والمؤسسة العسكرية.
والكتاب صادر صيف السنة الجارية عن دار النشر أبي رقراق في العاصمة الرباط، ويتضمن 18 فصلا وعناوين فرعية كثيرة تجعل القارئ ينتقل من فصل أو عنوان فرعي إلى آخر دون فقدانه الرابط السردي التاريخي للأحداث التي طبعت المغرب. ومن ضمن الفصول: الحسن الثاني ظالم أو مظلوم، والحسن الثاني بين يهود إسرائيل ويهود المغرب، الحسن الثاني والجزائر، والحسن الثاني الديمقراتور والحسن الثاني والجيش.
ويبدأ مطفى العلوي بمعطى تاريخي بنكهة النكتة وهو كيف كان الأئمة والعلماء المغاربة بل حتى الأجانب الذين كانوا يأتون من المشرق سواء في حضرة الحسن الثاني أو غيابه لا يقرأون آية من سورة النمل التي تقول «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا من أعزة أهلها أدلة، وكذلك يفعلون». ولم يكن الحسن الثاني يطلب عدم قراءة هذه الآية في حضرته لأنه لم يلزم أحدا عرفيا أو باسم القانون عدم قراءتها، بل فقط كان لا أحد يجرؤ خوفا على نفسه.
ويسرد الكاتب الكثير من المعطيات التاريخية التي تبرهن المنهجية الميكيافيلية للحسن الثاني في الحكم وتطوير البلاد نحو الحداثة في مختلف مراحل حكمه من مواجهة اليسار وقبول حكومة اليسار بزعامة عبد الرحمان اليوسفي والتعرض لضربات الجيش عبر الانقلابات والعلاقة المعقدة مع الجزائر ورئيسها هواري بومدين. ويستشهد بمذكرات الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت الذي كتب عن الحسن الثاني عندما كان وليا للعهد والتقاه في المؤتمر الدولي في الدار البيضاء يوم 22 كانون الثاني/يناير 1943 رفقة شارل ديغول وتشرشل والملك محمد الخامس بمناسبة مواجهة الحرب العالمية الثانية: «عندما أرى الأمير مولاي الحسن، فإنني أكتشف فيه شخصية الشاعر المتقمص لشخصية ميكيافيلية…وإذا أصبح ملكا على المغرب فإنه سيجعل من بلاده دولة عصرية كقائد عربي في عصر النهضة».

الكتاب يكشف روح الصرامة التي تميز بها الملك الذي دام تربعه على العرش 38 سنة من 1961 إلى 1999. فعندما لم يرتاح سنة 1959 وهو ولي للعهد إلى نوايا الحكومة الاشتراكية بزعامة عبد الله إبراهيم، توجه على رأس رتل من الدبابات وحاصر القصر الذي كان يوجد فيه أبوه الملك محمد الخامس وأجبره والدموع في عينيه على توقيع استقالة الحكومة الاشتراكية. مثال في غاية القساوة من ابن تجاه أبيه لكن رسم معالم الميكيافيلية التي ستطبع الحسن الثاني في حكمه.
ومن أبرز ما يتضمنه الكتاب علاقة الحسن الثاني بالكثير من الشخصيات والزعماء الذين عاصروه وطنيا ودوليا مثل المعارض الشهير المهدي بن بركة والجنرال أوفقير والرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين وعلاقاته المتوترة مع القوميين العرب مثل معمر القذافي وجمال عبد الناصر وحافظ الأسد والأوروبيين مثل الجنرال فرانكو وشارل ديغول وفرانسوا ميتران. وتحظى فرنسا باهتمام خاص في الكتاب نظرا لمركزيتها في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية المغربية خلال القرن الأخير.
وحول أكبر الألغاز السياسية في المغرب، يحاول الكتاب نفي رغبة الحسن الثاني في اغتيال المهدي بن بركة بل يشير إلى أنه كان يفكر في منحه رئاسة الحكومة سنة 1965 عندما وقعت أول انتفاضة شعبية كبرى في الدار البيضاء وخلفت مقتل المئات، ووقتها أدرك الحسن الثاني أن السبيل الوحيد للحفاظ على عرشه هو التفاوض مع المعارضة وتعيين هذا الزعيم اليساري رئيساً للوزراء، لكن عملية إحضاره تحولت إلى عملية اغتيال لم يتم فك لغزها حتى الآن.
ويعالج الكتاب أبرز المحطات التي نجح الحسن الثاني في اجتيازها في ظروف صعبة للغاية وأبرزها الانقلابات التي هددت عرشه وعلى رأسها أشهر انقلابين، الأول سنة 1971 بزعامة عدد من الجنرات الكبار في الجيش بقيادة المذبوح والانقلاب الثاني الذي قاده أشهر ضابط في الجيش المغرب حتى الآن وهو محمد أوفقير، وكيف نجا الملك منهما بأعجوبة إلى مستوى الحديث عن «البركة» أي عناية إلهية خاصة بهذا الملك الذي تقول الأدبيات التاريخية إن عائلته التي تحكم منذ أربعة قرون تعود إلى سلالة الرسول محمد(ص).
وبطريقته في تنظيم الأحداث والمعطيات والتواريخ بهدف جعل القارئ يعيش في أجواء اللحظات التي وقعت فيها الأحداث، في هذا الصدد، يستعيد الكاتب بدقة مختلف الجوانب العلنية والغامضة في وفاة الجنرال أحمد الدليمي سنة 1983، آخر العسكريين المخضرمين بعد الاستقلال والذين رافقوا الحسن الثاني لعقود. ومن استعراض معطيات ليست معروفة كثيرا ينتهي إلى وفاة هذا الجنرال في عملية تصفية بسبب ما يفترض أنه الانقلاب الذي كان يجهز له ضد الملك وبتنسيق مع الجزائريين واحتمال تورط المخابرات الأمريكية.
ويتوقف الكتاب كثيرا عند المسيرة الخضراء التي جلعت اسبانيا تنسحب من الصحراء الغربية لصالح المغرب وموريتانيا بعد مشاركة 350 ألف مغربي فيها. ورغم استمرار النزاع حتى يومنا هذا، يجعل الكتاب من المسيرة أهم إنجازات الحسن بحكم أنه استطاع مواجهة مناورات كل الدول التي كانت تطمع في الصحراء مثل موريتانيا والجزائر ورغبة اسبانيا في الاستمرار وخلق دويلة تابعة لها قبل رهان الأمم المتحدة في آخر المطاف على استفتاء تقرير المصير. وينسب الكاتب نسبة مهمة من المشاكل المتعلقة بمستوى الفشل النسبي للمغرب في هذا الملف إلى المناورات من داخل المؤسسة الدبلوماسية والسياسية والعسكرية التي عانى منها الملك في تطبيق استراتيجيته في الصحراء.
ويستخلص القارئ من الصفحات المخصصة لهذا الموضوع كيف تتناقض صورة الملك الحسن الثاني في مخيلة الشعب المغربي بالسلطان الذي لا تعصى أوامره إلى الملك الذي كان يجد أوامره لا تنفذ في بعض الأحيان رغم مرور سنة كاملة. ويخصص في عنوان فرعي باسم «تخوفات الحسن الثاني من تضخم نفوذ أعوانه» وآخر «الضربات القاسية توجه للحسن الثاني من أقرب الناس إليه».
أمثلة كثيرة يسردها الكاتب بشأن عرقلة مساعدين أمثال المستشار اجديرة والجنرال أوفقير في الستينيات ووزير الداخلية الشهير إدريس البصري من أواخر السبعينيات حتى نهاية التسعينيات مشاريع للملك خاصة وأن المساعدين شكلوا حكومة الظل لكن حكم الأعراف الأوروبية، كانت المتحكمة في شؤون البلاد إلى مستوى صورية بعض الوزراء. وعلى هامش الكتاب، فهذه الظاهرة مستمرة حتى وقتنا الراهن إلى مستوى وصف الحكومة المغربية بـ»الجمعية غير الحكومية».
ومن الفصول الممتعة في الكتابة علاقة الملك الحسن الثاني بالصحافة ومنها العلاقة التي جمعته مع صاحب الكتاب مصطفى العلوي، علاقة لم تمنعه من التعرض للاعتقال مرات عديدة ومنها سنة 1963، حيث يحكي كيف وجد في السجن معه ضباطاً مصريين شاركوا إلى جانب الجزائر في حرب الرمال ضد المغرب، وسقطوا أسرى في يد المغاربة وكان من ضمنهم ضابط/طيار سيصبح رئيس مصر وهو حسني مبارك. ويعتمد الكتاب كثيراً على الحوارات التي كان يدلي بها للصحافيين الأجانب، فقد كان الحسن الثاني بارعا في هذا المجال ويستعرض أفكاره وبرامجه خاصة فيما يتعلق بنزاع الصحراء.
ويتوقف الكاتب عند رحيل الحسن الثاني في تموز/ يوليو 1999 وكيف حضر جنازته ملوك ورؤساء العالم يتقدمهم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، وتبدأ عمليات الانتقام من إرثه مباشرة بعد رحيله، ويستشهد مصطفى العلوي بالبيت الشعري «وظلم ذوي القربة أشد مضاضة على المرء من ضرب الحسام المهند» لكن ما لبث هؤلاء أن بدأوا يستعيدون محاسنه وأعماله ومن هنا عنوان الكتاب «الملك المظلوم». ويختم بمقولة للكاتب والصحافي المغربي مصطفى حيران: «الحسن الثاني الملك الذي طبع المغرب حيا وميتا».
والكتاب غني بالمعطيات والمعلومات المصاغة في قالب تحليلي سلس تجعل عملية رصد وقراءة كل المعطيات يتطلب كتابا آخر أو مقالا عبر حلقات، لكن يرصد أو بالأخرى يرسم الصورة السياسية للملك الحسن الثاني عبر شخصيتين، معارض شرس وعضو من العائلة الملكية. ويكتب في الصفحة 49 أن المعارض اليساري المعروف إبراهام السرفاتي وصف الحسن الثاني بـ»الديمقراتور»، التعبير الذي يجمع بين الديمقراطية والديكتاتورية.
ويشترك الأمير هشام وهو ابن الأمير الراحل عبد الله شقيق الحسن الثاني، ويقول عن عمه :»الحسن الثاني لم يكن ديمقراطيا، لكنه كان يعرف قيمة الحرية، بعد توطيد دعائم ملكه خرج من القبضة العاطفية لوالده فأصبح حكمه يتراوح بين الاستبداد الشرقي والحكم المطلق الذي يميل أكثر إلى القيصر الروماني منه إلى الملك الأوروبي».
وقد يختلف القارئ أو المحلل مع الأطروحات الواردة في كتاب «الحسن الثاني الملك المظلوم» الذي ينضاف إلى قائمة مصطفى العلوي الذي أغنى الحقل الإعلامي بمنابر متميزة مثل «مشاهد» و»الأسبوع الصحافي» وكتب أخرى، لكن الأساسي هو غنى الكتاب بالمعلومات والمعطيات، كثير منها لم يكن معروفاً من قبل، وهو ما يجعل من الكتاب مصدراً رئيسياً من ضمن المصادر لكتابة تاريخ المغرب بعد الاستقلال، منتصف الخمسينات، وفك شفرات أحداث سياسية كبيرة عاشها المغرب.

وهكذا، فصاحب العامود الشهير “الحقيقة الضائعة”، يضع القارئ المغربي والباحث أساسا من خلال هذا الكتاب أمام حقائق عن مغرب القرن العشرين تغيب عن الجيل الحالي.

مصطفى العلوي: «الحسن الثاني الملك المظلوم»
دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط 2015
398 صفحة

HassanII

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password