ضرورة الحوار المغربي الجزائري /حسن اوريد

الكاتب والمفكر المغربي حسن أوريد

لمتتبع لشأن العلاقات المغربية الجزائرية يلحظ أنها دخلت منعطفا خطيرا، وأن حدة التوتر ازدادت. ما طبع العلاقات الثنائية على مر أربعين سنة ونيف هو حالة اللاحرب واللاسلم، وتوتر متحكم فيه، مع فترات توتر قصوى، كما في الاشتباكات التي حدثت في أمغالا 1 وأمغالا 2 سنتي 1975 و1976، أو فترات انفراج بدءا من 1988، مع استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، إلى غاية 1992، مع اغتيال المرحوم محمد بوضياف، ثم مع فرض التأشيرة من قِبل المغرب على المواطنين الجزائريين (ما يشكل خرقا لاتفاقية مراكش المحدثة للاتحاد المغاربي) وإغلاق الحدود البرية من قِبل السلطات الجزائرية في أغسطس 1994، إلى حدود الساعة.
التوتر القائم والمستمر لم يستفحل ليفضي إلى مواجهة، وظلت العقيدة العسكرية للبلدين هي شجب المواجهة العسكرية. لكن هذه العقيدة لم تُلغ سباق التسلح، ولا المواجهة الدبلوماسية، ولا حتى أعمال استفزاز دبلوماسي وإعلامي وأمني، وخروج عن أصول اللياقة الدبلوماسية وحسن الجوار، لبلدين تربط بينهم وشائج تاريخية واجتماعية وإنسانية عميقة. لم نعد في المعطى أو البارديغم ذاته، أي حالة اللاحرب واللاسلم مع توتر متحكم فيه، تشوبه فترات توتر قصوى ما تلبث أن تنجلي.
حدة التصريحات وتواترها في سياق دولي خطير، تطبعه قيام أحلاف ومحاور، وعودة الحرب الباردة، يجعل اللاممكن ممكنا، أو على الأصح قابلا للتحقق. ولكن اللاممكن أو الممكن، ليسا حتمية. الأسوأ ليس قدرا. الشعوب ترسم تاريخها وتحدد مآلها، وليست كراكيز أو أدوات تتحكم فيها الحتمية التاريخية. يشير المفكر الفرنسي ريمون أرون في كتابه «أبعاد الوعي التاريخي» في دراسته لحرب البلوبونيز في التاريخ القديم بين أثينا وسبارطة، معتمدا على مؤرخ تلك الحرب، تيسيديد، أنها لم تكن تندرج في منطق الأشياء، ولم يُرد بها أحد، مع ذلك اندلعت، ويعقد أرون المقارنة مع الحرب العالمية الأولى التي لم يُردها أحد، ونشبت جراء حدث عارض، ولكنه كان بمثابة الشرارة التي أورثت النار في سياق قابل للاشتعال. والنتيجة التي خلُص إليها المفكر الفرنسي في الحالتين، هي انتهاء دور دولة المدينة، وأفول الحضارة اليونانية، وإرهاص بزوغ الإسكندر الذي كان مشدودا نحو الشرق، وهي كذلك نهاية الدولة الأمة وانتقال مركز الحضارة من أوروبا إلى الولايات المتحدة، وبزوغ الاتحاد السوفييتي. بتعبير آخر كانت الحالتان عملية اندحار بل انتحار.
تظل بلاد المغرب (بالمعني العام للمغرب)، أو شمال إفريقيا، رغم التوتر الذي تعرفه، والاضطرابات التي تكتنفها، منطقة واعدة. تظل الإطار الوحيد المؤهل لقيام تكتل يوازي القطبين الإقليميين تركيا وإيران، ويرسي نوعا من التوازن، بل يعتبر هذه الإطار ضرورة استراتيجية لفائدة العالم العربي بأكمله. هي عمقه الاستراتيجي ودرعه الواقي أمام العواصف الهوجاء التي تهب عليه وتمزق أوصاله. ولا يغيب عن ذهن المتتبعين ما كانت كتبه مجلة «إيكونومسيت» البريطانية قبل أقل من سنة، أنْ لو نجح الاتحاد المغاربي لكان أقوى اقتصاد في المنطقة، يضاهي تركيا، التي انتقلت في غضون عشرين سنة من اقتصاد متأخر إلى اقتصاد ناهض.
لا يمكن العودة بعقارب التاريخ إلى الوراء، ولكن يمكن الاستفادة من عِبَر التاريخ. التوتر القائم رغم حدته لا يحجب الوعي بالمصير المشترك، وعمق الوشائج التاريخية والثقافية والاجتماعية والإنسانية بين المغرب والجزائر، والبلاد المغاربية عموما. يستند هذا الوعي إلى ذاكرة مشتركة، ورموز موحدة ووعي بالمصلحة المشتركة. هذا الوعي طبعا لا ينفي وجود عناصر اختلاف، ورؤى متضاربة، وجفاء رسّخ القطيعة بين الجيل الحالي، وتجاوز ذلك ليس مستحيلا.
منطق الأشياء أن يتم الحوار بين مسؤولي البلدين، المغرب والجزائر، ولكن هذا الحوار لم يفض لشيء حين قام، ولا شيء يشي بأنه سينتهي لنتيجة. فما المانع أن يتم حوار غير رسمي بين فعاليات تتمتع بالوعي التاريخي والمسؤولية والجرأة والاستقلالية؟
لا يتم الحوار أصلا بين متحاورين يشاطرون الرؤى نفسها، بل مع من يختلفون في الرؤى والمقاربات، يعون الأخطار المحدقة، ويرتبطون بالاحترام وقابلية الإصغاء. والحوار لن يؤتي أكله في لقاء، الحوار ليس إعلان نوايا أو فرقعة إعلامية.
إن نجاح الحوار، بل إمكانيته، لا يمكن أن يتم إلا من خلال ما أسماه الرئيس التونسي السابق السيد منصف المرزوقي بتغيير الباراديغم. لا يمكن حل المشاكل القائمة في ظل الباراديغمايت الحالية. النجاح لا يمكن أن يكون إلا عبر مسلسل، فلا يمكن لما أبرمته سنون من انعدام الثقة، نقضه في لحظة. إن الوعي بالمصير المشترك مع من أتيح لي الحديث إليهم من الإخوة الجزائريين في مناسبات عدة، وتتبعي لما يكتب وينشر، يجعل إمكانية الحوار ونجاحه ممكنين.
مما تحكيه كتب التراث أن أحد خلفاء بني أمية بعث نديمه أبا دلامة كي يحارب الأزارقة، وهم غلاة الخوارج، وأشدهم نزوعا للاقتتال. ولم يكن أبو دلامة رجل حرب، وكانت المواجهة بل المنازلة تعني النهاية، فتفتق ذهنه عن حيلة، إذ لما التقى الجمعان وبُعث بأبي دلامة لمواجه واحد من أشرس مقاتلي الأزارقة، بادره بالسؤال. يا هذا أتعرفني، قال لا. قال أتشهد عني شرا أكون اقترفته في حقك أو حق أهلك، قال لا. قال أتريد سوءا بمن يريد بك خيرا. قال لا. قال لا شك أنك جائع، قال، أي والله لم أنل طعاما منذ أمس. قال هل لك في طعام حضّرته ننال منه معا. ثم أخرج أبودلامة من مخلاته دجاجة، وتقدم كل واحد براحلته حتى يمكن أن يأكل من طعامهما المشترك. تحوّل ما أريد له أن يكون اقتتالا إلى توادد لأنه أتيح لـ»العدوين» أن يتحادثا ويعرفا بعضهما بعضا، ولذلك فالمعرفة مصدر التآخي، والحوار من أدوات المعرفة.

Sign In

Reset Your Password