صدر هذا الكتاب منذ شهرين في فرنسا عن جريدة لوموند ومجلة «لافي»، وهو الأول من سلسلة جديدة تعالج إشكاليات العالم، حيث يحاول، عبر مقالات وحوارات وبيانات ووثائق تاريخية، تقديم أجوبة على التطورات والتغيرات التي يعيشها الغرب في الوقت الراهن، وما ينتظره من تحديات كبرى في ظل صعود قوى كبرى تهدد هيمنته على العالم.
ويختلف المفكرون في تقييم ما يفترض أنه انهيار تدريجي للحضارة الغربية، والتي تعني في الأساس عدم استمرار ريادتها للعالم كما فعلت منذ ما يصطلح عليه «الإكتشافات الكبرى»، بين من يتحدث عن فقدان الغرب الريادة بشكل سريع وبين من يؤمن بإنهيار الريادة الحضارية على المدى البعيد، بحكم أن تاريخ الحضارات يمتد لقرون ولا يمكن احتسابه بعقود.
وفي «تاريخ الغرب: انهيار أم تحول؟»، يحاول مجموعة من الباحثين الأكاديميين والصحافيين الخبراء، تحت إشراف جان بيير دونيس وديديي بوركيري، معالجة السؤال إنطلاقا من عمق التاريخ الى الوقت الراهن. ويؤكد المشرفون على هذا العمل السياسي- الفكري أنه يتميز بتعاون بين صحافيين خبراء يعايشون الأحداث الدولية بكثافة، ومفكرين وفلاسفة يضفون البعد الأكاديمي والفكري على هذه الأحداث. ومن الأسماء المساهمة مثقفين كبار منهم عرب مثل اللبناني جورج قرم، ومن فرنسا جاك أتالي، ومن إيران الفيلسوف داريوش شايغان، ومن الكاميرون أشيل مبيمب، والأمريكي إدموند فيلبس.
ومن التحديات التي واجهها مؤلفو الكتاب ربط الماضي بالحاضر واستشراف المستقبل والتعاطي مع الغرب بمثابة وحدة أم وحدات، لاسيما في ظل تناسل الدراسات التي تتعلق بانهيار دول معينة مثل فرنسا وتقدم أخرى مثل المانيا ومحافظة الولايات المتحدة على مكانتها رغم التحديات الكبرى.
الكتاب ينطلق من الإمبراطورية الرومانية التي يعتبرها بعض المؤرخين النواة الحقيقية لتأسيس الغرب وينتقل الى العصور الوسطى التي هيمنت فيها الكنيسة والإكتشافات الجغرافية والنهضة الأوروبية وعصر الأنوار وبداية الإستعمار الأوروبي للعالم والثورة العلمية- الصناعية لينتهي بالمحطات الكبرى في القرن العشرين، وهي الحرب الباردة ومحاولة تصدير القيم الكونية من حقوق الإنسان والديمقراطية في فضاءات العولمة مع العقود الأولى للقرن الواحد والعشرين، والتحدي الكبير لظاهرة الإرهاب المرتبطة بالإسلام.
وقدم للكتاب/المجلة المفكر اللبناني جورج قرم الذي يعتبر من أكبر دارسي الغرب في العالم العربي وصاحب الكتاب المتميز «شرق وغرب: الشرخ الاسطوري»، معتبرا أن «هوية الغرب جرى تضخيمها من خلال تعسف علمي على ربط أحداث وقعت في حقب متباعدة تاريخيا وجغرافيا من أجل إنشاء ميغا هوية في مواجهة الآخر الذي هو المسلم والعربي والهندي والفارسي و…».
ويتطرق الكتاب الى ما يصفه «انتحار الغرب» بسبب الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية التي هي استمرار للحروب المتعددة أو الثنائية التي كانت تعيشها أوروبا. حيث يؤكد المؤرخ جورج هنري سوتو أن «هذه الحروب كانت فشلا لأوروبا وليس الغرب»، وكيف عملت الولايات المتحدة على إنقاذ منظومة الغرب من خلال تدخلها في الحرب وإقامة «الحلف الأطلسي» الذي كان جدد مفهوم الغرب ولكن هذه المرة في مواجهة القيم الشيوعية. ولا يتردد الكتاب في مقالاته والحوارات التي يقدمها عن إبراز ثنائية التناقض الكبيرة التي يجسدها الغرب تاريخيا، فالغرب هو مصدر التطور والحداثة وحقوق الإنسان من خلال الثورات السياسية الكبرى مثل الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، ولكنه في الوقت ذاته أرسى نظام العبودية عالميا من خلال منظومة الرواج الثلاثي وأرسى طرائق استغلال الشعوب الأخرى من خلال إقامة نظام كولونيالي عالمي تحت ذريعة المساهمة في نقل الحضارة الغربية «للعالم غير المتحضر». ويكتب المفكر التونسي مالك شبل حول هذا التناقض: «مختبرات الغرب تبحث علميا لمواجهة الأمراض ولكن هذه الأدوية لا تصل الى العالم الفقير»، مبرزا هيمنة المنفعة المالية على القيم الإنسانية في الغرب في مثل هذه الحالة.
ويبحث الغرب عن تناقضات لهويته لضمان استمراره، وهنا يقدم الكتاب ثنائية الغرب والآخر التي يتجلى أبرز مظاهرها في «الاستشراق» أو «الغرب والشرق»، حيث يحضر العالم العربي والإسلامي ويستمر حضوره حاليا عبر قضايا سلبية مثل الإرهاب المنسوب للإسلام الذي يحابي مفكرين متطرفين في الغرب. وهذا الأمر يتعلق بالقيم، ولكن أتالي يؤكد أن «القيم الغربية ليست غربية محضة بل حملتها ثقافات أخرى من ديمقراطية وحرية فردية ونجد ذلك مع الفيلسوف ابن سينا الذي كان غربيا في تفكيره قبل ظهور مفهوم الغرب».
ويطرح الكتاب مستقبل الغرب، ويلجأ الى المفكر الذي يوصف بـ «رسول إنهيار الغرب» الألماني أزفالد شبينغلر صاحب كتاب «انهيار الغرب» الصادر في بداية القرن العشرين، معتمدا على ما يسمى «النظرية الدائرية للحضارة» وهي صعود وسقوط حضارة مهما بلغت من القوة والأوج. ويؤكد جيلبير ميرليو من جامعة سوربون أن الكتاب يجد الآن إقبالا لأن الجميع يتحدث عن انهيار الغرب وصعود قوى أخرى.
وبعيدا عن النظريات، يتحدث الكتاب عن مخاطر فقدان الغرب الريادة، انطلاقا من معطيات وأرقام التجارة الدولية والإنتاج الصناعي ونوعية وعدد الاختراعات المسجلة وإرتفاع نسبة السياح والتأثير الدولي المتنامي وصلابة الطبقة المتوسطة المتنامية. وتنتهي المقالات الى وجود تهديد حقيقي صادر عن منطقة الشرق مثل الصين أو دول مثل روسيا أو تكتلات مثل دول «بريكس»، وهي الصين والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل وروسيا، لهيمنة الغرب على العالم. وتتحدث التحاليل الاستراتيجية عن نظام اقتصاد عالمي جديد يوزع مواقع القوة الجيوستراتيجية.
ورغم أن الغرب يعاني من إيقاعين، إيقاع الولايات المتحدة التي تحافظ على قدراتها الصناعية والعسكرية مقابل تراجع أوروبا التي بدأت تعاني من عودة شبح الإنقسامات والإنفصال والقوى المتطرفة التي تهدد وحدتها، يرى باحثون أن الغرب يعمل على ضمان استمرار تفوقه العسكري والاقتصادي. وعن الجانب العسكري، يكتب المفكر الاستراتيجي جان سيلفستير مونغرونيي: «الحلف الأطلسي يريد استمرار مراقبة العالم». ويؤكد أن الأوروبيين يرغبون في حلف أطلسي يقوم على قيم تاريخية للإرث الحضاري الغربي وعلى توسيع وتحديث الحلف بدخول أعضاء جدد مختلفين كما جرى مع تركيا.
ومن جانبه، يؤكد كبير غاتينوا، وهو صحافي متخصص في الاقتصاد من جريدة «لوموند» «أن الغرب وفي صمت تام عمل على التفاوض حول السوق الأطلسية طيلة 25 سنة قبل الكشف عنها مؤخرا لتكون أكبر سوق عالمية ستجعل الواجهة الأطلسية تستمر اقتصاديا مهما يقال عن انتقال العالم الى واجهة الباسفيك».
وتبقى الخلاصة الرئيسية هي استحالة استمرار هيمنة الغرب في ريادة العالم وحيدا، وصعوبة قيام كتلة أخرى بتعويضه مستقبلا بشكل تام، لأن الثقافات أصبحت منفتحة ومتمازجة وليست منغلقة مثل القرون الماضية التي بلور فيها الغرب قوته وصعوده الحضاري. فالعالم يشهد تكتلات وطموحات ستصب لا محالة في نظام عالمي متوازن آخذ في التبلور وسيتطلب عقودا.
L’Histoire de l’Occident – Déclin ou métamorphose’
Hors-série Le Monde – La Vie, collection Histoire
Juin 2014. 188 pages.
