استمتعت أجيال متلاحقة بأفلام الرسوم المتحركة لبطليها توم وجيري، القط والفأر، فكل واحد منهما يحاول توريط الآخر في مقلب، وتنتهي كل حلقة بالتعادل، فلا القط يأكل الفأر، ولا الأخير ينتصر نهائيا في شغبه، وبهذا تمتد الحلقات الممتعة الى الأبد.
ويوجد ثنائي مماثل في الحياة السياسية العربية، إنه المغرب والجزائر، يتبادلان حسب الظروف أدوار القط والفأر، ولكن بشكل مأساوي بكل ما تحمله كلمة «مأساة» من عمق سياسي للكلمة. لا يترددان في تدمير بعضهما بعضا والإمعان في تعزيز سياسة الأسوار الفاصلة، وتبقى المفارقة تغنيهما بأسطوانة «الشعبين الشقيقين والمصير المشترك». ويشترك المغرب والجزائر بقرابة 1600 كلم من الحدود البرية، الشرقية للمغرب والغربية للجزائر. وهي أطول حدود مغلقة في العالم، وثاني حدود مغلقة زمنيا منذ أكثر من عشرين سنة، ولا يتفوق عليها في هذا سوى الحدود المغلقة بين كوريا الشمالية والجنوبية. ولم يكتف البلدان بإغلاق الحدود البرية ونصب مئات من نقاط المراقبة، بل يقيمان الخنادق والأسوار السلكية خلال الشهور الأخيرة تحت ذريعة «حماية الأمن القومي»، كل واحد من الآخر. وهذه الأسوار ما هي في الواقع سوى ذروة المظهر الحقيقي للتوتر اللامتناهي بين البلدين.
ويواجه البلدان تحديات آنية كبرى تهدد وتؤثر على أمنهما القومي، وهي الهجرة غير النظامية والمخدرات والإرهاب، وأخرى بنيوية وعلى رأسها التخلف المزمن. ولا يوجد تعاون بين الطرفين في مواجهة هذه الآفات الخطيرة بل يحل الاتهام بديلا في هذا الشأن. فالمغرب يتهم الجزائر في بعض الأحيان بتشجيع المخدرات «القرقوبي» نحو أراضيه، ونقل المهاجرين الأفارقة غير النظاميين حتى الحدود المغربية وتصدير إرهابيين لضرب استقرار البلاد، حتى يفقد المغرب ما يفترض صفة «البلد الأكثر استقرارا في العالم العربي». وهي الاتهامات نفسها التي توجهها الجزائر الى المغرب.
فقد أبانت التجربة أنه عند صدور أي موقف رسمي، ويكون دائما بيان التنديد، في بلد من البلدين يأتي الرد سريعا من البلد الآخر بأقوى التعابير التي توجد في القواميس السياسية. ونقاش من يتحمل من البلدين مسؤولية التدهور التاريخي هو نقاش أصبح من الناحية السياسية عقيما، مثله مثل الجدل بين من يؤمنون بخلق الله لإنسان ومن يؤمنون بنظرية داروين، أو على شاكلة المثال المستعمل شعبيا في الجدل «من ولد الأول الدجاجة أم البيضة».
ولا يمكن لأي بحث ومعالجة موضوع العداء بين البلدين إغفال حدثين تاريخيين ساهما في ترسيخ جذور هذا العداء المعلن والخفي، الحدث الأول وهو حرب الرمال سنة 1963 بين البلدين، حول مناطق حدودية في الجنوب الشرقي للمغرب والجنوب الغربي للجزائر، حيث تركت جرحا لدى الجزائريين. والثاني هو الدور الرئيسي والمبالغ فيه للجزائر في نزاع الصحراء بدعمها اللامتناهي لجبهة البوليساريو التي تنازع المغرب السيادة على هذه المنطقة التي كانت مستعمرة إسبانية في الماضي، وهو ما لا يتسامح معه المغاربة، ويشكل جرحا آخر.
الحدثان شيدا وما زال يشيدان، بسبب ما ارتبط بهما من أحداث مؤسفة لاحقا، سورا نفسيا بين قيادة البلدين. ولم يتم تجاوز هذه العقدة حتى الآن.
وترتب عن خليط العقد هذه إرث من «المشاكل الصلبة» يجعل كل مبادرات الصلح المتكررة لا تتجاوز ما هو بروتوكولي. وحاولت دول عديدة في الماضي إصلاح البين بين البلدين، بعضها عربية وإسلامية مثل العربية السعودية والإمارات، موظفة الدين والعروبة، وأخرى غربية مثل فرنسا واسبانيا والولايات المتحدة باسم المصالح. وتكون النتيجة استمرار الاتهامات والصراع من أجل الحلم الواهي بريادة المغرب العربي. ويترتب عن هذا الوضع ما يلي:
أولا: الانتقال التدريجي للعداء بين البلدين الى الشعبين، المغربي والجزائري. فأصبح الجزائري يشكل سياسيا للمغربي مفهوم «الآخر» والعكس صحيح. ونعني بالآخر هنا هو مصدر الخطر الأبدي، على الرغم من أن الآخر ارتبط تاريخيا بذلك الذي يختلف دينيا وثقافيا، ويمكن اختزاله في الرؤية المتبادلة بين ضفتي البحر المتوسط بين المسلمين في جنوبه والنصارى في شماله، وما وقع بينهما من حروب طاحنة عبر قرون من الزمن. ولم تعد للروابط الكلاسيكية مثل الدين واللغة والتاريخ المشترك بين الجزائر والمغرب أي تأثير. وعندما يترسخ مفهوم العداء بين شعبي البلدين، وبدأ يترسخ بشكل مقلق، وقتها من الصعب الحديث عن تطبيع في المستقبل القريب، بل تصبح العقدة تاريخية صعبة التجاوز. ويزداد الأمر سوءا في ظل تراجع دور المثقفين والسياسيين المتنورين. فقد دخلت معظم صحافة البلدين في حرب إعلامية منذ أكثر من سنتين، تنهل من الأحداث السلبية بشكل سوريالي ومرعب في التفنن في مهاجمة الآخر. وفي الوقت ذاته، تنعت كل مثقف أو سياسي ينادي بالتفاهم بين البلدين بالخائن، لهذا تراجع دور المثقفين والسياسيين خوفا من تعرضهم لقصف الترسانة الجاهزة من الاتهامات بالخيانة.
ثانيا، وفي ارتباط بالأول، تطورت مخاطر اعتبار «الآخر» العدو الأبدي الى سباق تسلح خطير. وأصبح المغرب والجزائر يتصدران صفقات الأسلحة، وأصبحا ضمن أكبر الزبائن في العالم في حالة الأخذ بعين الاعتبار الناتج الإجمالي الخام للبلدين مقارنة مع قيمة الصفقات الموقعة. وأصبح الاستثمار في السلاح يتم على حساب التنمية البشرية، بل يتم بناء العقيدة العسكرية لكل دولة في مواجهة الأخرى، وهو أمر خطير.
ثالثا، يفتقد البلدان للمبادرة الاقليمية لمواجهة التحديات المتمثلة في الإرهاب والهجرة والتخلف، على الرغم من أنها تمس أمنهما القومي أكثر من الدول الأوروبية، بل تحولت الى مصدر اتهامات متبادلة. فلا توجد اتصالات بين البلدين، وكل القرارات التي تهم المحيط الإقليمي تقف وراءها أوروبا، سواء عبر اتفاقيات الاتحاد الأوروبي مع كل دولة من الدولتين، أو عبر ما يسمى مجموعة خمسة زائد خمسة، أي دول المغرب العربي وفرنسا واسبانيا والبرتغال وإيطاليا ومالطا. ويسخر بأسف المسؤولون الأوروبيون من التنافر بين البلدين في ظل التهديدات.
رابعا، ترتب الصراع بين البلدين بالحكم بالجمود المطلق على اتحاد المغرب العربي، وهو التجمع الأكثر جمودا في العالم، رغم أن تأسيسه يعود الى سنة 1989، بل يساهم الجمود في غياب فرص التنمية المشتركة. واعتادت الدول المجاورة تسجيل معدل عال من التبادل التجاري، إلا أن هذه القاعدة التجارية تغيب في حالة المغرب والجزائر على شاكلة، أو ربما أكثر، من كوريا الشمالية والجنوبية وكوبا والولايات المتحدة قبل المصالحة الأخيرة.
وهكذا، في وقت يعتقد أو يحلم فيه البلدان بالتنافس على زعامة المغرب العربي، وهو التجمع الجامد، والتحول الى مخاطب رئيسي للاتحاد الأوروبي والغرب في القضايا الاقليمية، وأحيانا بشكل مهين مثل لعب دور الدركي، تؤكد كل المعطيات الصادرة في التقارير الدولية سياسيا واجتماعيا وعلميا على التخلف الذي يعاني منه البلدان. فمؤشرات البطالة مرتفعة في المغرب والجزائر، والأمية تستمر راسخة في صفوف الشعبين، والارتباط باستيراد كل شيء من الخارج، خاصة ما هو حيوي بارز في ميزان التبادل التجاري. وكل هذا يجعل الزعامة والريادة وهما من الأوهام.
وبهذا تحولت العلاقات بين المغرب والجزائر إلى ما يشبه العلاقة بين توم وجيري ولكن…ولكن…ولكن في قالب مأساوي.