على الرغم من أن القمة العربية 2018 المقررة في الرياض ميؤوس منها سلفا، مثل كل سابقاتها، إلا أن القرار السعودي المنفرد بتأجيلها يحمل علامة على أن الجامعة العربية و«الأمة» العربية و«العمل العربي المشترك» وغير ذلك من المفاهيم، باتت جوفاء بلا فائدة.
منذ نحو عقدين، تحوَّلت القمة العربية السنوية إلى ما يشبه ناديا للرؤساء والملوك، يلتقون فيها حفاظا على بعض الطقوس ولتبادل أطراف الحديث. الوحيد الذي «فهمها» مبكراً وامتلك شجاعة التنصل منها هو ملك المغرب محمد السادس. وتحوَّلت بالنسبة للسياسيين والمهتمين بالشأن العام إلى فرصة يحصون فيها مَن حضر ومَن غاب وأيُّ وفد مثّل أيَّ دولة، مع ما يرافق ذلك من هفوات في البروتوكول والطقوس. أما للجمهور العربي فتحوّلت القمة إلى فرجة وفرصة يبحث في ثناياها عن بعض الطُرف والمواقف يتندر بها لاحقا، كما كان يحدث في حياة الراحل معمر القذافي. بالنسبة للدول المنظمة، القمة مناسبة لاختبار الذات من خلال محاولة إقناع أكبر عدد من القادة بالحضور، وعدا ذلك لا شيء يهم. القمة الناجحة، بهذا المنطق، هي التي يحضرها أكبر عدد من الرؤساء والملوك، والتي يحضرها «الكبار» وقادة الصف الأول. هذا هو المقياس الوحيد للنجاح، ولا شيء غيره.
حتى هذا ولىَّ وافتقده الشارع العربي. وحل محله زمن تؤجل فيه القمة العربية بقرار سعودي بعد اتفاق مع مصر (أو باقتراح منها)، بحجة أن موعد الانعقاد هذه السنة يتزامن مع الانتخابات الرئاسية في مصر. ويُعلن التأجيل دون تحديد موعد لاحق للانعقاد.
من حق أيّ دولة تأجيل القمة العربية أو الاعتذار عن استضافتها لأسباب تخصها. والسعودية إلى حد الآن مارست حقا طبيعيا، لكن الإشكال في الطريقة، وفي كون المملكة أجَّلت القمة لأسباب لا تخصها (مصر لم تطلب رسميا وعلنا تأجيل القمة لتزامنها مع الانتخابات الرئاسية المحسومة سلفا).
من نافلة القول إن قرار التأجيل تم بلا إجماع. ومن الصعب تصديق أنه مرَّ بالمراحل التي كان يجب أن يمر بها. كذلك من الصعب تصديق أن كل القادة العرب استُشيروا فيه، لأن القيادة الجديدة في السعودية تفتقد لثقافة الاستشارة، ويغلب عليها الميل نحو وضع الآخرين أمام الأمر الواقع بحجة أنها الأحق بقيادة العالمين العربي والإسلامي. على الأرجح بُلِّغ قادة الصف الأول من العرب بالتأجيل، والآخرون لا غرابة أن علموا به من وسائل الإعلام أو عبر برقيات من سفرائهم.
هذه مسائل شكلية في مظهرها لكنها عميقة في مدلولها، وتشكل «ثرمومتر» الواقع العربي الملغوم بالتنمر والبلطجة. سيكون من الغباء السياسي تصديق أن الانتخابات الرئاسية في مصر هي السبب. (هل كانت القمة ستؤجل لو تزامنت مع انتخابات رئاسية في موريتانيا أو جيبوتي؟).
يجب التشديد على أننا بلغنا زمنا يصعب فيه جمع أربعة قادة عرب حول طاولة واحدة، ناهيك عن عشرين أو اثنين وعشرين. كما يستحيل توحيد القادة العرب حول قضية واحدة، إذ لم يعد بين العرب قاسم مشترك واحد، بما في ذلك القضية الفلسطينية التي فقدت مكانتها السياسية وحتى الروحية بعد أن وُصفت طويلا بالقضية المركزية.
للوقوف عن الأسباب الحقيقية لقرار التأجيل يجب التنقيب في الانشغالات الدبلوماسية السعودية. السعودية أجلّت القمة لأنها لا تمتلك ورقة واحدة مشجعة أو توافقية. العناوين الكبرى للسياسة الإقليمية السعودية اليوم كلها مثيرة للجدل والريبة: إيران، حصار قطر، الولايات المتحدة، إسرائيل (أو ما سُميَّ صفقة القرن). وفي الحقيقة تلكم هي أسباب التأجيل.
المملكة، بقيادة ولي عهدها محمد بن سلمان، مشغولة بما هو أهم من القمة العربية ومن قضايا العرب، بما فيها القضية الفلسطينية. القمة العربية بملفاتها التقليدية تعني فتح أبواب الشك والجدل والسؤال. وفتح هذه الأبواب الآن معرقل للطموحات السعودية، بل يطعن فيها سياسيا وأخلاقيا.
السعودية مشغولة بإيران تريد حشد العالم كله ضدها. لكن الأخيرة ليست مصدر قلق لكل العرب كما هي للسعودية. السعودية مفتونة بالرئيس ترامب وعائلته، والأخير ليس مصدر أمان ومبعث ثقة لكل العرب. السعودية مهووسة بتركيع قطر، لكن مطلبها هذا ليس محل إجماع بين العرب. السعودية تعتقد أنها اليوم تتحكم في كل العرب، لكنها في حقيقة الأمر تتحكم في مصر والبحرين وشيئا من الإمارات. وليست على ودّ أكيد إلا مع قادة هذا الثلاثي. ما عدا هذا لا شيئا مضمونا ولم تنل المملكة أي مكسب من حروبها الإقليمية، الحقيقية والوهمية.
ورغم ذلك استغل قادة المملكة الفوضى التي زرعوها وكان من نتائجها نشر الاعتقاد بأن بلادهم تتزعم المنطقة، لمنح أنفسهم حق إصدار القرارات الأحادية مثل قرار تأجيل القمة. استفادوا في ذلك من انكفاء دول عربية وتراجع أخرى وتعفف بعضها عن إثارة المشاكل مع «الشقيقة الكبرى».
لكن لسوء حظ السعودية أنها حققت هذا «الإنجاز» واستولت على «العمل العربي المشترك» في الوقت الضائع، وبعد أن أصبح، ومعه الجامعة العربية والمنطقة كلها، جثة هامدة شبعت موتا.
السعودية تستولي على العرب في الوقت الضائع/ توفيق رباحي
ولي العهد السعودي محمد بن سلمان