الانتخابات الإسبانية: بدء انتهاء جيل سياسيي ربطة العنق لصالح آخر منبثق من هموم المجتمع المدني في أوروبا

المرشحة لرئاسة بلدية برشلونة تتعرض للاعتقال في الماضي بسبب نشاطها ضد طرد المواطنين من منازلهم

انتهى عصر ربطة العنق في السياسة الأوروبية» هو التعليق المناسب حول نتائج الانتخابات البلدية والحكم الذاتي في اسبانيا التي حملت قوى سياسية جديدة نابعة من المجتمع المدني، حيث تؤشر على بروز طبقة جديدة من سياسيين ظهرت في أمريكا اللاتينية وتنتقل الآن إلى أوروبا في دول مثل اليونان وإيطاليا واسبانيا، وهي طبقة ملتصقة بهموم الشعب وغالبا ما تتعرض لنعوت قدحية «الشعبوية».
وشهدت اسبانيا يوم الأحد 24 امايو الجاري انتخابات خاصة بالبلدية وانتخابات الحكم الذاتي، وأسفرت عن خريطة سياسية رباعية يتقاسمها الحزبان الكلاسيكيان الشعبي المحافظ والحزب الاشتراكي العمالي علاوة على حزبين جديدين وهما حزب بوديموس اليساري وحزب سيودادانوس الليبرالي. ووضعت هذه الانتخابات حدا للثنائية الحزبية بين الشعبي والاشتراكي التي هيمنت في اسبانيا منذ الانتقال الديمقراطي إبان منتصف السبعينيات، تاريخ رحيل الدكتاتور الجنرال فرانسيسكو فرانكو.
وتنصب الأضواء على حزب بوديموس الذي يعني «نستطيع» أو «قادورن»، ولم يشارك باسمه مباشرة بل وقف وراء تنظيمات مدنية وسياسية يسارية بأسماء مختلفة في معظم مدن اسبانيا ومنها مثلا «نحو غرناطة» في غرناطة الأندلسية و»الآن مدريد» في مدريد وتبوأ المركز الثالث. ويحتفظ بالمشاركة باسمه الأصلي مباشرة في الانتخابات التشريعية خلال تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وتمنحه استطلاعات الرأي المختلفة ما بين المركز الأول والثاني، وهو أمر قياسي واستثنائي في السياسة الإسبانية نظرا لتأسيسه الذي يعود إلى سنة ونصف فقط.
وبرزت في اسبانيا أحزاب سياسية يسارية أخرى إقليمية نابعة من المجتمع المدني، مثل حزب كومبروميس في فالنسيا الذي فاز برئاسة بلدية هذه المدينة التي تعتبر من أكبر مدن هذا البلد الأوروبي. ولعل القاسم المشترك بين الأحزاب الجديدة وخاصة اليسارية منها هو بساطة المرشحين ومظهرهم الذي لا يحيل على المظهر الكلاسيكي لرجل السياسة المتعارف عليه في أوروبا خلال العقود الأخيرة.
نهاية ربطة العنق في السياسة
ويعتبر المظهر الرئيسي للمرشح الكلاسيكي أو رجال السياسة هو البدلة الكلاسيكية بربطة العنق ليحيل على الاحترام والتميز وسط المجتمع. لكن هذه الصورة الآن بدأت تتراجع في أوروبا بعدما تراجعت في أمريكا اللاتينية. فالقاسم المشترك بين مرشحي الأحزاب الصاعدة في اسبانيا بل وفي مجموع أوروبا هو اللباس العادي الذي يصل في بعض الأحيان إلى لباس الهيبي ويتصدره سروال جينز أساسا، بينما ربطة العنق تحيل على رجل السياسة الفاسد لدى جزء كبير من الرأي العام لاسيما في ظل ارتفاع ملفات الفساد السياسي في دول مثل إيطاليا واسبانيا واليونان.
وغياب ربطة العنق في السياسة الأوروبية يحيل على جيل جديد من السياسيين تجمع بينهم قواسم متعددة منها:
في المقام الأول: الانتماء إلى المجتمع المدني بجمعياته المتعددة مثل حقوق الإنسان وجمعيات الدفاع عن حقوق المستهلكين والمناضلين في وجه قوة المؤسسات المالية مثل البنوك. إذ لم يترب هؤلاء السياسيون في الأحزاب السياسية بل وسط جمعيات المجتمع المدني.
في المقام الثاني: الرهان على عدم احتراف السياسة كمهنة، إذ تشهد دول جنوب أوروبا مثل اسبانيا واليونان وإيطاليا بل وحتى فرنسا ظاهرة ما يسمى الاحتراف السياسي، حيث يتحول الكثير من السياسيين في الأحزاب الكلاسيكية اليمينية واليسارية إلى محترفين للمناصب السياسية والامتيازات طيلة حياتهم العملية، الأمر الذي يفقدهم التواصل مع نبض وتغيرات المجتمع. وبالتالي، ففوز هؤلاء السياسيين الجدد هو كما يقول صاحب نوبل للاقتصاد كرومان في مقال له في «نيويورك تايمز» حول الانتخابات البلدية يوم الخميس الماضي «انتصار على زعماء أوروبا».
في المقام الثالث: القطيعة مع الامتيازات من سكن رسمي وسيارات رسمية وتعويضات مالية خيالية عن مهام عادية للغاية. وتعتبر امتيازات السياسيين خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر منها أوروبا من ضمن العوامل المحركة للتغيير في المشهد السياسي.
في المقام الرابع: تتعرض هذه الأحزاب لحملة تشويه من الطبقة السياسية الكلاسيكية ووسائل الإعلام الكلاسيكية التي تنعتها بالشعبوية لأنها تتبنى مطالب عامة الشعب البسطاء.
وتصنف هذه الأحزاب الجديدة مثل سيريزا في اليونان وخمسة نجوم في إيطاليا وبوديموس في اسبانيا ضمن اليسار، لكنه مختلف عن المفهوم الكلاسيكي لليسار، ويكفي أن أحزابا يسارية كلاسيكية سواء اشتراكية أو شيوعية فقدت حضورها وقوتها لصالح الأحزاب اليسارية الجديدة. وفي حالة اسبانيا مثلا، لم يحصل اليسار الموحد إلا على قليل من الأصوات، في حين تقهقر الحزب الاشتراكي ذو الأمجاد ويكاد يغيب عن الساحة السياسية في اليونان.
ونجحت الأحزاب اليسارية الجديدة في التركيز على أجندة يحضر فيها الاجتماعي بقوة ويتوارى فيها نسبيا الإيديولوجي ولكن بدون فقدان البوصلة السياسية التقدمية. وهو ما لم تنجح فيه الأحزاب اليسارية الكلاسيكية. ويعود نجاح هذه الأحزاب إلى قدرتها على التغلغل في المجتمعات الأوروبية بشكل سريع وتأقلمها مع مطالب المجتمعات التي تتواجد فيها وتتجلى في العيش الكريم بعدما أنهكتها الضرائب وارتفاع أسعار البنزين والكهرباء وتراجع الخدمات الاجتماعية. وهي بهذا، طبقت نموذج بعض نماذج أمريكا اللاتينية في دول مثل بوليفيا والإكوادور وفنزويلا حيث ظهر يسار في ثوب اجتماعي.
ولا تؤمن هذه الأحزاب بالوضع المالي- السياسي القائم في دول جنوب أوروبا، حيث المؤسسات المالية تتوفر على امتيازات غير قانونية في بعض الأحيان بفضل تورط الأحزاب الكلاسيكية في دعمها عبر قوانين تصدر عن برلمانات تمثل نظريا سيادة الشعب. وتؤكد الأحزاب الجديدة عزمها تغيير قواعد اللعبة، ولهذا يطرح حزب سيريزا الحاكم في اليونان تأدية القروض في ارتباط مع النمو الاقتصادي في البلاد، ويؤكد حزب بوديموس في حال وصوله إلى السلطة في اسبانيا الأمر نفسه رغم التهديد الصادر عن المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي.
اسبانيا تكملة لليونان
وشكلت اليونان منطلقا لسياسيين لا يؤمنون بربطة العنق، والآن تتكرر التجربة وبقوة في اسبانيا. فقد فاز في فالنسيا ثالث أكبر مدينة اسبانية خوان ريبو عن حزب «كومبروميس» وهو على شاكلة بوديموس، الذي أعلن التخلي عن السيارات الرسمية وكل الامتيازات وعن ربطة العنق لصالح الجينز. وتوجد عشرات الأمثلة من خوان ريبو في مدن كبيرة ومتوسطة في اسبانيا.
لكن المثال البارز هو الفائزة في انتخابات بلدية مدينة برشلونة الشهيرة، يتعلق الأمر بآدا كلاو، وهي امرأة في الأربعيينات مقبلة من عالم المجتمع المدني، لم تمارس السياسة من قبل ولكنها أسست جمعية لمواجهة سياسة الحكومة والبنوك التي كانت تطرد المواطنين غير القادرين على الأداء. وتدريجيا أصبحت وجها مألوفا في التظاهرات تتعرض للاعتقال وتلقى حصة من هراوات رجال الأمن عند الاحتجاج على إفراغ المواطنين من منازلهم بحجة عدم الوفاء للبنوك. ولكنها نجحت في تحــويل هذا الملف إلى قضية وطنية في أجندة الأحزاب والرأي العام.
ومن وسط المجتمع المدني والحقوقي، قفزت إلى رئاسة ائتلاف واسع من حركات حقوقية ومدنية وتقدمية بدعم من حزب بوديموس، واستطاعت الفوز بالمركز الأول في الانتخابات البلدية التي جرت الأحد الماضي أمام سياسيين مخضرمين. ولقيت إبان الحملة الانتخابية دعما دوليا من مفكرين وسياسيين. فقد أعلن المفكر الأمريكي ناهوم تشومسكي تأييده لها، وحضر حملتها الانتخابية الرئيس السابق للأوروغواي، موخيكا الذي يعتبر رمزا للنزاهة والتواضع بعدما رفض السكن في القصر الرئاسي وتبرع براتبه للفقراء.
وهكذا، تشكل نهاية ربطة العنق في السياسة بدء نهاية أحزاب كلاسيكية احترف أعضاؤها السياسة الأبدية من امتيازات ورواتب ضخمة على حساب المواطنين وقدوم جيل جديد منبثق من المجتمع المدني- الحقوقي.

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password