إنقاذ جبهة التحرير الجزائرية بإحالتها إلى المتحف/ توفيق رباحي

صورة مركبة للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة

وصف حزب جبهة التحرير الوطني في الجزائر، خطأ، بأنه الحزب الحاكم. ظلت هذه الصفة تلازمه في الخطاب السياسي والإعلامي على الرغم من إقرار قادة في الدولة والحزب ذاته، مراراً، بأنه لم يحكم يوما وإنما حكم به «الآخرون» وحققوا به مخططاتهم وطموحاتهم السياسية وحتى الشخصية. 
من هؤلاء «الآخرون» الرؤساء الذين يختارهم أقوى جنرالات الجيش ويفرضونهم، وقادة المؤسسات الأمنية وأقطاب النظام. 
عندما عجز هؤلاء «الآخرون» مرة وحيدة يتيمة عن امتطاء الحزب وتجييره لصالح مخططاتهم، تآمروا على رئيسه من الداخل، خَوّنوه ثم اغتالوه سياسيا: كان اسمه عبد الحميد مهري، وحدث ذلك في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي في ذروة الحرب الأهلية الجزائرية.
عاد الحديث عن هذا الحزب مجددا قبل ثلاثة أيام بمناسبة انعقاد مؤتمره العاشر الذي من المفروض، في الظروف الطبيعية السليمة، أن يكون فرصة تاريخية لنقاش سياسي جاد وعميق ما أحوج البلاد إليه. 
غير أنه بسبب إصرار قادة الحزب على إبقائه «مطية» يركبها الأقوياء في الحكم، كان المؤتمر العاشر فرصة أخرى ضائعة. كان مجرد عرس بائس كرّس واقعاً سياسيا وحزبيا أكثر بؤسا: تزكية عمياء لرئيس فاقد لقدراته على إدارة الشأن العام، وتصفيق مطلق لأمين عام اشتهر بين الجزائريين بأنه مبدع في «حرفة» أخرى غير السياسة.
بمقاييس العمل السياسي والحزبي البائس في الجزائر، كان المؤتمر العاشر نجاحا مدوّيا يجب أن يدخل أساطير التاريخ. نجاح لقيادته ولمنظميه وللعمل السياسي في البلاد.
لماذا؟ لأن المؤتمر حضره ستة آلاف مشارك أكلوا وشربوا، ناموا في فنادق العاصمة، تبادلوا أطراف الحديث، صفقوا طويلا وعادوا إلى بيوتهم. ولأن المؤتمر تلقى رسالة تزكية من بوتفليقة (الرئيس يحكم البلد والشعب برسائل تُنسب له ويقرأها غيره) عبّر فيها عن دعمه للحزب ولقيادته، وهذه القيادة لا تنتظر ولا تحتاج أكثر من رضى بوتفليقة. ولأن المؤتمر حضرته الحكومة كاملة وجلس رئيسها ووزراؤها ساعات يصفقون مثل أطفال في حفل نهاية الموسم الدراسي. ولأن عدداً من ممثلي السفارات والبعثات الأجنبية حضروا المؤتمر. وأخيراً لأن المؤتمر مرّ بلا تبادل شتائم ولكمات عند الدخول وبلا عراك بالكراسي في الداخل كما جرى في مؤتمرات أخرى سالفة. 
باستثناء هذه «الأسباب»، من المخجل الحديث عن نجاح المؤتمر العاشر وهو يمعن في الولاء لبوتفليقة وفي تكريس رجل اسمه عمار سعداني أمينا عاما له. 
من المفروض ألاَّ مشكلة مع حزب يكون رئيسه هو رئيس الدولة ذاته، لكن في الجزائر المسائل كعادتها مقلوبة. فالرئيس بوتفليقة لم يطلب يوما بأن يكون رئيسا «شرفيا» للحزب. هو يرى نفسه رجلا أسمى من الأحزاب وأكبر من أن يطلب. قصة «الرئيس الشرفي» هذه حلت على الناس مع تولي بوتفليقة الرئاسة ضمن سباق المزايدات على تقديم فروض الولاء بين الأحزاب القريبة من الحكم فظفرت قيادة جبهة التحرير بهذا «الشرف». أما صلة بوتفليقة بحزب جبهة التحرير فهي فقط في كونه انتمى إليه ذات يوم بعد الاستقلال ولاحقا ـ مثل كل رجال الدولة ـ عندما كانت البلاد تخرج من الحقبة الاستعمارية واختلط أي شيء بكل شيء.. جبهة التحرير هي الدولة والحزب والحكومة ولاشيء في الوقت ذاته. 
القضية الأخرى هي أن الدستور يفرض على بوتفليقة أن يكون رئيسا لكل الجزائريين، لكن هذا لم يمنعه من تفضيل حزب جبهة التحرير والإطراء عليه فكان ذلك سبباً آخر جعل من المؤتمر العاشر فرصة ضائعة. 
كما أن هذا «الزواج» بين بوتفليقة وجبهة التحرير لا يقف على أساس صلب لأن كلا الطرفين جاهز للتخلي عن الآخر في أي لحظة: بوتفليقة يمكن أن يتخلى عن الجبهة لمجرد إرضاء نزوة شخصية تزيده اقتناعاً بعظمته (ناهيك عن أسباب سياسية وجيهة)، والجبهة جاهزة للتخلي عن بوتفليقة في اللحظة التي تدور عليه الدوائر أو يبدو في موقف ضعف، لتقف مع القوي الجديد.
أما الحديث عن تلاقي برامج وأفكار الطرفين فترف لا مكان له، لأن برنامج بوتفليقة ليس أكثر من كلام معوَّم عن بناء المساكن وشق الطرقات، وبرنامج جبهة التحرير لا يُعرَف عنه سوى أنه هو ذاته برنامج بوتفليقة أيًّا كان.
بقي إذاً أن حزب جبهة التحرير مفيد كخزان انتخابي عندما يتطلب الأمر إعادة انتخاب بوتفليقة مرة أخرى أو شقيقه أو من يمثله في اقتراع رئاسي. وبقي أنه مفيد في مواصلة دوره في استغباء المجتمع ونشر العقم الفكري والبلادة السياسية. وبقي أنه سيكون مفيداً بلعب دور مكمل للأجهزة الأخرى في مهام ضبط المجتمع وإخماد جذوة أي تفكير يدعو إلى رفض الجمود الذي حل بالبلاد والمجتمع مع وصول بوتفليقة إلى الحكم.
بوصولها إلى ما وصلت إليه، في المؤتمر العاشر وقبله، تكون قيادة جبهة التحرير قد جعلت المطالب بإحالة الحزب الى المتحف أكثر واقعية وجدية وإلحاحا. فالجبهة ملك لكل الجزائريين، وعندما قررت الثورة في 1954 مطالبة بالاستقلال، فعلت من أجل كل الجزائريين وليس باسم المنتسبين لها. لكن بعد الاستقلال جرى عزل هذه الجبهة عن فئات واسعة من الجزائريين الذين آمنوا بها وضحّوا معها، إلى أن انتهى بها المطاف لعبة بين أيدي سياسيين هواة. 
من هنا تصبح الدعوة لإحالتها على المتحف صرخة، ترقى الى درجة الواجب، لحمايتها من عبث العابثين.

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password