برز إلى السطح في المغرب، منذ فترة ليست قصيرة، نقاش جديد قديم في مفهوم “البنية السرية”. وبالرغم من أنه يبقى محدودا بين مهتمّين بالشأن السياسي الداخلي المغربي، ويقتصر على قنوات خاصة على موقع “يوتيوب” أو عند بعض الصحافيين، إلا أن صداه نكاد نجده في الشارع العام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. يتعلق الأمر بمفهوم جديد لوصف ظاهرة قديمة رافقت الواقع السياسي المغربي منذ أصبح يخضع لمفاهيم التحليل السياسي الحديث وأدواته، ويعود الفضل في اجتراح المفهوم الجديد إلى المؤرّخ والأكاديمي المغربي المعطي منجب الذي كان سباقا إلى استعمال عبارة “البنية السرية” لوصف الدائرة الضيقة في أعلى هرم السلطة في المغرب التي تدير الشأن السياسي والأمني والاقتصادي في البلاد، في إشارة إلى ما يعادل مفهوم “الدولة العميقة” الذي ظهر أول مرّة في القرن الماضي في تركيا لوصف اصطفاف مجموعة شبكات المصالح للدفاع عن مبادئ الدولة العلمانية ضد كل فكر أو مجموعة تناهضها، باللجوء أحيانا إلى استعمال أدوات العنف الشرعي وغير الشرعي خارج إطار القانون بدعوى الحفاظ على المصلحة العامة المتعلقة بشكل مباشر أو غير مباشر بوجود الدولة.
وخلال ثورات الربيع العربي، عاد هذا المصطلح إلى التداول بكثرة في التحليل السياسي لوصف بنيات الأنظمة الاستبدادية التي غيرت جلدها، وبعض منها ضحّت برؤوسها لضمان استمرارها وبقائها، والدليل أن أغلب تلك الأنظمة التي كانت توجد فيها “دولة عميقة” عادت لتحكم دولها وتتحكم في شعوبها. ويكاد المصطلح نفسه يوجد في أغلب الدول العريقة، بما فيها الديمقراطية، لكن مع فارق كبير، أن ما يقابل “الدولة العميقة” في الدول الديمقراطية يعمل في إطار القانون، ومن أجل الحفاظ على النظام العام ومنظومة القيم والمعتقدات التي تقوم عليها أسس الدولة، وأقرب حالة في هذا الصدد هو مفهوم “الإستبلشمنت” أو “المؤسّسة” التي ترمز في الولايات المتحدة إلى مراكز السلطة الرسمية والحقيقية في البلاد، قبل أن يصبح هذا المفهوم متداولا وبشكل واسع في علم الاجتماع والعلوم السياسية، للإشارة إلى نخبة منغلقة تختار نفسها داخل مؤسّسات رسمية لتشكّل شبكة من الأشخاص النافذين يتحكّمون في نظام الحكم ويمارسون سيطرة شبه تامة على جميع منافذ الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل الدولة نفسها.
فهل نحن أمام إحدى هاتين الحالتين في المغرب؟ أي حالة الدولة العميقة أو حالة “الإستبلشمنت”؟ من يعرف الواقع السياسي المغربي من الداخل يدرك مدى تعقيده وخصوصيته، لأن بنية النظام السياسي في المغرب بطبعها منغلقة على نفسها وشبه غامضة يصعب إخضاعها لمفاهيم التحليل الاجتماعي والسياسي الحديث ومصطلحاته. تاريخيا كان وما زال يشار إلى بنية النظام الصلبة في المغرب بمصطلح “المخزن”، وهو تعبير قديم وخاصّ بالحالة المغربية، كان يشار اصطلاحا إلى المكان الذي يجري تخزين السلاح والثروة فيه، باعتبارهما عصب المُلك والحكم داخل كل مجتمع، ومن يملكهما يملك ناصية الحكم والتحكّم في البلاد والعباد. لكن مع التطوّر الذي عرفته الدولة المغربية منذ الاستقلال أصبح المفهوم حمّال أوجه، عندما يكون إيجابيا فهو يشير إلى السلطة المركزية داخل بنية النظام والتي يمثلها القصر الملكي وشبكة المؤسّسات الرسمية المرتبطة به. وعندما يستعار لنقد طبيعة النظام القائم يصبح شبكة معقدة من العلاقات والتداخل بين أجهزة ومجموعات عسكرية وأمنية واقتصادية وسياسية ومدنية ودينية لمقاومة أي تغيير يطرأ من شأنه أن يهدّد المصالح الحيوية التي يتوقف عليها وجود الدولة العميقة والقائمين عليها.
أما مفهوم أو مصطلح “البنية السرية” الذي طفا على السطح أخيرا، فزاد تعقيد الأمور، خصوصا بعد النقاش الذي خلفه بين من يعتقد فعلا بوجود بنية سرّية مكونة من شبكة مصالح يديرها أشخاص نافذون داخل الدولة مستعدّون للعمل خارج القانون من أجل حماية مصالحهم بدعوى حماية مصالح الدولة وأمنها واستقرارها، ومن ينفون وجود بنية موازية داخل الدولة تقوم بمهامها بالنيابة عنها بدون سند قانوني أو شرعية شعبية أو قانونية.
وليس مثل هذا النقاش جديدا في المغرب، ففي عهد الملك الراحل الحسن الثاني كانت المعارضة اليسارية تستعمل مفهوم “أم الوزارات”، في إشارة إلى وزارة الداخلية التي تشرف على أجهزة أمنية كثيرة، وكانت في عهد إدريس البصري، أقوى وزير داخلية في عهد الملك الراحل، تبسط هيمنتها على جميع منافذ الحياة داخل الدولة والمجتمع المغربيين. وحتى في عهد الحكومة التي قادها الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران كان يستعمل مفهوم “التّحَكّم”، في إشارة إلى الأشخاص النافذين بالقرب من الملك ويديرون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد من وراء الستار. لذلك لم يتردّد بنكيران، الذي ما زال أمينا عاما على رأس حزبه بعدما أحيل إلى دكّة المعارضة الرسمية، في الخروج أخيرا للإدلاء بدلوه في النقاش الدائر حول المفهوم الجديد القديم “البنية السرّية”، ليذكّر بأنه كان سباقا إلى التحذير من تغوّل مفهوم “التّحَكّم” دخل بنية الدولة، موضحا أن الهدف ليس فقط التحكّم في الدولة وإنما في الملكية نفسها!
وللرد على هذا النقاش، لجأت الدولة الرسمية في المغرب إلى أقدم وسيلة تواصل صامتة تتقنها، ويتعلق الأمر بالصورة، وذلك من خلال العودة القوية للملك إلى واجهة الأخبار في بلده من خلال الأنشطة الرسمية التي تم تكثيفها أخيرا بعد غياب كان من بين أسباب شيوع هذا النقاش الذي لا يمكن تجاوزه أو تخطّيه، لأن الأمر لا يتعلق فقط بمفاهيم أو مصطلحات، وإنما بواقع أصبح يفرض نفسه داخل الواقع السياسي المغربي. ويتعلق الأمر بحالة التجريف العام التي طاولت السياسة والثقافة والمجتمع، وعمّت الأحزاب والنقابات والمؤسّسات المنتخبة والصحافة، وأدّت إلى نوع من الفراغ المهول والمخيف، لا يعرف اليوم من يملؤه أو من قد يملؤه غدا في حال تركه فارغا. وأشاعت نوعا من الخوف النفسي، حتى من الخوض في نقاش سياسي سلمي، لفهم ما يجري داخل البلد. وهنا مكمن الخطر، لأن الخوف هو أسلوب الحكم الذي تعتمده البنيات السرّية داخل كل نظام للتحكّم فيه من داخله.