نتائج الانتخابات البرلمانية ستحد من مساعي ماكرون منح فرنسا تموقعا جيوسياسيا جديدا في العالم

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

شهدت فرنسا الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الأحد ما قبل الماضي والتي أعطت خريطة سياسية مختلفة هي الأولى من نوعها بعد الحرب العالمية الثانية بظهور قوى سياسية جديدة وتراجع الأحزاب الكلاسيكية. ويتزامن هذا التطور مع ما تعرفه فرنسا من فقدان البوصلة في موقعها الدولي بتراجع نفوذها في إفريقيا وخاصة شمال القارة ثم التهميش الذي تعاني منه من طرف العالم الأنجلوسكسوني. وهذا التغيير السياسي الداخلي سيلقي بتأثيراته على الوضع الفرنسي دوليا.

وطيلة العقود الأخيرة،  كان الصراع السياسي انتخابيا محصورا ما بين الحزب الاشتراكي من جهة، واليمين المحافظ الذي اتخذ أسماء مختلف من رئيس الى رئيس مثل إبان حقبة الرئيس جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، ولكن كان اليمين نفسه وبالقيادات نفسها، كان الاسم هو الذي يتغير. غير أن يونيو 2022 يعد منعطفا حقيقيا، إذ حصل الائتلاف المؤيد للرئيس على ما يفوق 245 مقعدا في البرلمان، دون الأغلبية المطلقة، ويليه ائتلاف اليسار والخضر بزعامة ميلنشون ب 131 مقعدا ثم اليمين القومي المتطرف “التجمع الوطني” بزعامة ماري لوبان ب 89 مقعدا. ويعتبر المراقبون هذه النتائج صفعة قوية ضد الرئيس إيمانويل ماكرون بحكم أنه لن يتوفر على الأغلبية المطلقة ليطبق سياسته، وبالتالي  سيصبح كما نعته أحد المعلقين “ملكا يسود ولا يحكم” أي أن صلاحياته محدودة للغاية.

ويتزامن تغيير الخريطة السياسية الفرنسية داخليا مع سيناريو مشابه تعيشه فرنسا في علاقاتها الدولية من خلال السعي عن تموقع جيوسياسي جديد وسط الكبار ووسط التطورات الجارية لاسيما وأن العالم ينتقل الى مرحلة تعدد الأقطاب، حيث تبدو فرنسا في وضع غير مستقر مقارنة مع هذه القوى الكبرى نظرا لفقدانها حلفاء ودول كانت تعتقد أنها في فلكها.

وسيكون للوضع الداخلي الفرنسي تأثير كبير على العمل الخارجي، بحكم أن القوى الجديدة من اليسار الراديكالي وكذلك من اليمين القومي المتطرف لديها رؤية مخالفة للرؤية الكلاسيكية الفرنسية التي سادت منذ الحرب العالمية الثانية حتى  السنوات الأخيرة. وتبقى أكبر التحديات التي تواجه فرنسا خارجيا وتحاول إيجاد بوصلة جديدة لها هي:

في المقام الأول، تعاني من تهميش من طرف الجناح القوي في الغرب وهو الجناح الأنجلوسكسوني المكون من الثنائي واشنطن-لندن والذي يحظى بدعم كبير من طرف دول في التوجه الجيوسياسي نفسه وهي أستراليا ونيوزيلندا وكندا. ومن عمليات التهميش الذي تعاني منه فرنسا إقصاءه من عملية بيع غواصات لأستراليا خلال نهاية الصيف الماضي واختيار أستراليا للغواصات الأمريكية بديلا. وهذا الإقصاء لا يقتصر على عملية تجارية بل هو إقصاء من مخطط ايكوس الخاص بمواجهة الصين في المحيط الهادي-الهندي، علما أن فرنسا تتوفر على جزر في المنطقة البحرية وتهدد الصين نفوذ باريس بقوة.

في المقام الثاني، تفقد فرنسا وزنها في الاتحاد الأوروبي إبان الأزمات الكبرى بسبب تحالف أوروبا الشرقية مع لندن وواشنطن. وهو السيناريو الذي يحدث حاليا في الحرب الروسية ضد أوكرانيا، حيث ذهبت قوى مثل بولونيا ودول البلطيق مع الأطروحة الأمريكية بضرورة التصعيد الحربي ضد روسيا. وتحاول فرنسا رفقة ألمانيا خلق نوع من التوازن والذي يتجلى في التفاهم مع روسيا حول خريطة طريق سلام مستقبلا توفر الأمن لأوروبا من جهة، وكذلك موارد الطاقة الروسية مثل الغاز أساسا.

في المقام الثالث، تفقد فرنسا الكثير من نفوذها في مستعمراتها السابقة. ولعل العنوان البارز في الوقت الراهن هو كيف طردت حكومة مالي القوات الفرنسية من منطقة الساحل وتراهن في المقابل على القوات الروسية غير الرسمية “فاغنر” لمحاربة الإرهاب. وكانت جريدة لوموند قد تحدث سابقا عن فوبيا معاداة كل ما هو فرنسي خلال الشهور الأخيرة في القارة السمراء.  غير أن الامتحان الكبير الذي تمر منها فرنسا هو هل ستنجح في الحفاظ على نفوذها في منطقة شمال إفريقيا وأساسا في المغرب والجزائر وتونس. وتمر علاقات باريس بالعواصم المغاربية ببرودة كبيرة، إذ لا توجد زيارات للوزراء مع الرباط بل لا توجد حتى مكالمات بين الرئيس الفرنسي ماكرون والملك محمد السادس. في الوقت ذاته، تستمر علاقات باريس متوترة مع الجزائر، هذه الأخيرة التي اتخذت قرارا رمزيا وعمليا خلال الأسبوع الجاري وهو تعويض اللغة الفرنسية في المرحلة الابتدائية باللغة الإنجليزية. وكل التطورات الحاصلة في منطقة الساحل وشمال إفريقيا هي صورة واضحة لفقدان فرنسا النفوذ في القارة السمراء نتيجة بحث دول القارة عن شراء جدد مثل روسيا والصين أساسا، ثم محاولة التخلص من الهيمنة الفرنسية.

في المقام الرابع، شكل البحر المتوسط الفضاء الجيوسياسي بامتياز طيلة القرنين الأخيرين لفرنسا، غير أنها في الوقت الراهن تواجه  تحديات كبرى من طرف قوة إقليمية صاعدة وهي تركيا. وتواجه فرنسا التمدد الاقتصادي التركي في الفضاء المتوسطي في دول مثل تونس وليبيا والجزائر وبدرجة أقل في المغرب. ومن جهة أخرى، لم تعد باريس تمتلك بدعم من لندن صناعة القرار المتوسطي في القضايا الكبرى، فقط انتصرت عليها تركيا في الملف الليبي الى مستوى بلغ التهديد بمواجهة عسكرية بحرية كما حدث خلال يونيو 2020.

يوجد ارتباط وثيق بما يجري في الساحة السياسية الوطنية الفرنسية من تغييرات كبرى وما يحدث للوضع الجيوسياسي لفرنسا في المسرح الدولي. وإذا كانت المؤشرات تشير الى غياب استقرار سياسي وطني، بمعنى صعوبة الرئيس ماكرون اتخاذ قرارات كبرى بسبب غياب الأغلبية المطلقة في البرلمان، فهذا سيعيق الرئاسة في مسعاها لتقوية موقع فرنسا دوليا. ومن ضمن الأمثلة الواضحة المستقاة من الوضع الدولي حاليا: إذا كانت رئاسة فرنسا تنخرط في كل المبادرات الغربية، وإن كان بتحفظ في بعض الأحيان، حول مواجهة روسيا، إلا أن هذه الرئاسة تجد في البرلمان الفرنسي الآن قوى سياسية رئيسية مثل اليمين القومي المتطرف واليسار الراديكالي تناهض الحرب بل وتتفهم مطالب روسيا الأمنية على حساب أوكرانيا. وكيفي العودة الى تصريحات كل من زعيم اليسار ميلونشون وزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبين حول التعاطف النسبي مع روسيا لمعرفة الصعوبات التي سيواجهها ماكرون، وكيف ستؤثر الخريطة السياسية التي أفرزتها الانتخابات التشريعية الأخيرة على وضع فرنسا دوليا.

Sign In

Reset Your Password