موسكو تجعل حرب أوكرانيا استنزافا للغرب/د. حسين مجدوبي

صورة من حرب أوكرانيا

تستمر الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وضد جميع التوقعات التي كانت تتداولها وسائل الإعلام ومراكز التفكير الاستراتيجي والحكومات في الغرب، فقد تحولت الى حرب استنزاف للغرب أكثر منها ضد روسيا. وهذا الوضع يعود الى الخلل في التقييم ومنها إسقاطات الماضي على هذه الحرب والاعتقاد الراسخ في التفوق الاقتصادي-العسكري الغربي.

لقد تجاوز الحرب شهرها الخامس وتقترب من شهرها السادس، وذلك بعدما اندلعت يوم 24 فبراير/شباط الماضي عندما بدأت القوات الروسية في غزو مناطق متعددة من أوكرانيا لاسيما القسم الشرقي للدفاع عن جمهوريتي دونتيسك ولوغانسك في إقليم دونباس بعد انفصالهما عن كييف.

وهكذا، بعد اقتراب الشهر السادس لهذه الحرب التي تبدو أنها ستطول نسبيا، أصبحت كل المؤشرات تدل على أنها تحولت الى حرب استنزاف حقيقية من طرف روسيا ضد الغرب وخاصة دول الاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى ثم الولايات المتحدة بدرجة أقل، وذلك بعدما كان الاعتقاد السائد هو أنها ستكون حرب استنزاف ضد روسيا أساسا في انتظار تكرار تجربة أفغانستان.

وعمليا، خلال الأيام والشهر الأول من اندلاع الحرب، تناسلت المقالات الكثيرة وفي صحف كبرى من لوموند الفرنسية والباييس الإسبانية إلى نيويورك تايمز الأمريكية وعشرات التقارير من مراكز التفكير الاستراتيجي التي تتحدث عن “سقطة روسيا الاقتصادية والسياسية والعسكرية”. وتضاعفت هذه التحاليل والتكهنات بعدما بدأ الغرب في فرض عدد من العقوبات الاقتصادية والسياسية لضرب النظام الاقتصادي والمالي لروسيا وإجبارها على التنازل. وكانت تهدف هذه العقوبات الى تأليب الرأي العام الروسي ضد القيادة السياسية-العسكرية بزعامة فلاديمير بوتين. غير أن مع مرور الشهور، تبين بالملحوظ كيف وقع العكس وأصبحت هذه الحرب عملية استنزاف حقيقية للغرب ، وبدأ الغرب يبحث باحتشام شديد عن حل للنزاع بعدما كان يشجع على استمرار الحرب. وعلى رأس المعطيات التي تجعل هذه الحرب وقد اتخذت منحنى الاستنزاف للغرب بدل روسيا، ما يلي:

في المقام الأول، لم يتأثر  الاقتصاد الروسي كثيرا بل أصبح الروبل عملة دولية قوية، ولكن في المقابل يعيش الغرب تضخما كبيرا ثم يعاني من إمدادات المواد الأولية وخاصة الغاز بالنسبة لأوروبا بعدما تبين استحالة تعويضه من دول أخرى بواسطة الشحن البحري بالسفن “الغاز المسال”.

في المقام الثاني، لم تنهر القوات الروسية في أوكرانيا، علما أنها لم تستعمل الأسلحة الفتاكة الخطيرة مثل الصواريخ فرط صوتية حتى الآن باستثناء في بعض الحالات الاستثنائية. في المقابل، كشفت الحرب عن محدودية فعالية السلاح الغربي وخاصة الأوروبي منه الذي يفيد القوات الأوكرانية في محاولة وقف التقدم الروسي وليس استعادة الأراضي التي خسرتها كييف. كما كشفت هذه الحرب محدودية مخازن الذخيرة الغربية وعلى رأسها الأوروبية، حيث تتماطل معظم الدول الأوروبية في تزويد نظيرتها الأوكرانية بالسلاح وأساسا الذخيرة.

في المقام الثالث، سعى الغرب الى فرض حصار دبلوماسي وفرض العزلة على روسيا، غير أن موسكو ناورت كثيرا ونجحت في تحريك مجموعة البريكس لصالحها، وتعمل على تطوير العلاقات مع إفريقيا، ومنها جولة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الى القارة الإفريقية ثم رفع مستوى العلاقات مع العالم العربي. ولعل المنعطف هو كيف كان الغرب يراهن على ضرب العلاقة بين روسيا والصين لكنها أصبحت صلبة أكثر من خلال الاتفاق على استعمال العملات الوطنية في التبادل التجاري علاوة على استيعاب جزء هام من النفط والغاز الذي كان يذهب إلى أوروبا.

في المقام الرابع، كان الغرب يريد الضغط على روسيا بتقليص صادراتها من المواد الأولية، وتبين لاحقا كيف أنه الآن يحتج على تخفيض روسيا صادرات الغاز والأسمدة.

لقد تحولت حرب أوكرانيا إلى حرب استنزاف للغرب أساسا بسبب خلل في التقييم جيوسياسي للعالم الآخذ في التبلور، إذ أن الطبقة السياسية التي تقود الغرب في الوقت الراهن تفتقر للتجربة الكافية والرؤية البعيدة المدى. وكان وزير الخارجية الفرنسي الأسبق والسياسي المخضرم ألكسندر دوما قد شدد في بداية اندلاع الحرب بعدم احترام قيادة الغرب الحالية للتعهدات تجاه روسيا وعدم خبرتها، جاعلا من الغرب المسؤول عن هذه الأزمة بسبب الاقتراب كثيرا من الحدود الروسية بقبول دراسة عضوية أوكرانيا في منظمة شمال الحلف الأطلسي، وهو الذي يدرك مدى حساسية موسكو من هذا التكتل العسكري.  ومما يفاقم هذا الوضع هو وجود وسائل إعلام انخرطت في هذا النهج من التفكير وذهبت معظم مراكز التفكير الاستراتيجي في الاتجاه نفسه، مما أعطى صورة مغلوطة للرأي العام العالمي  عن هذه الحرب في البداية.

في المقابل، كانت المؤسسات العسكرية الغربية متحفظة على مسار الحرب، لأنها تدرك عقيدة موسكو العسكرية الجديدة، وتدرك الأسلحة النوعية التي يتوفر عليها الجيش الروسي. ومن النادر جدا العثور على  خبير عسكري مثل الضباط الكبار كان يتحدث عن تكرار سيناريو الاستنزاف على طريقة أفغانستان، من النادر جدا العثور على ضابط عسكري سابق اشتغل كمحلل أو كان قائد ميدان لعمليات عسكرية يتحدث عن خسارة مرتقبة للجيش الروسي. في المقابل، نجد من يصفهم المحلل الفرنسي بيير كونيسا (خبير سابق في وزارة الدفاع الفرنسية) “بالمبشرين بالحرب” من مثقفي الدرجة الثالثة الذين يملؤون بلاتوهات قنوات التلفزيون في الغرب وبعضهم يحل ضيفا على قنوات عربية مثل الجزيرة هم الذين روجوا لمثل هذه الطروحات ، عفوا، الخرافات العسكرية وجيوسياسية.

Sign In

Reset Your Password