دراسة-ملف الصحراء: العوامل المتحكمة في مسار نزاع اقترب من نهايته/د.حسين مجدوبي

مجلس الأمن الدولي الذي بدأ يضغط لحل نزاع الصحراء

المقال تم نشره في العدد الأخير من مجلة نظر وتم إدخال بعض التعديلات لأحداث طرأت لاحقا

شهد ملف الصحراء المغربية تطورات متسارعة على المستوى الدولي لا تصب في مصلحة المغرب وتأخذ أهميتها في ظل المواقف التي يمكن وصفها “بغير الودية” التي تبنتها دول غربية يفترض أنها حليفة للمغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا. وهذه التطورات مرتبطة بأطروحة بدأت تسود في الأوساط الدولية تنادي بضرورة إيجاد حل نهائي لنزاع الصحراء، وذلك بالرهان على حل سياسي يستجيب لطلبات المغرب وجبهة البوليساريو وقد قد يكون نظاما فيدراليا أو كونفدراليا دون استبعاد حدوث انفصال أي ظهور دولة جديدة. ونظرا لافتقار المغرب لرؤية قائمة على “التفكير الدبلوماسي الاستراتيجي” وخاصة ما يعرف بالدبلوماسية الاستباقية، فهذه التطورات تفاجئه وتتجاوزه أحيانا خاصة الموقف الأمريكي الأخير في الأمم المتحدة الذي كاد أن يفرض مبدأ تكليف قوات المينورسو مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء ومخيمات تندوف.

ومنذ تقديم المغرب مقترح الحكم الذاتي في أبريل من سنة 2007 الى منظمة الأمم المتحدة الذي ينص على منح الصحراويين حق الحكم الذاتي لتسيير أوضاعهم السياسية والاقتصادية تحت السيادة المغربية وفي إطار الوحدة الترابية للمغرب، لم يشهد ملف الصحراء تطورا لافتا يمكن تصنيفه بالمنعطف الذي يمنح بعدا جديدا للنزاع حتى جاء الموقف الأمريكي المفاجئ بمحاولة تكليف قوات المينورسو مراقبة حقوق الإنسان.

وعمليا، فاجأت الولايات المتحدة المغرب باقتراحها الذي قدمته الى مجلس الأمن يوم 9 أبريل 2013 وينص على ضرورة تكليف قوات المينورسو مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء. ولم ينجح المقترح الأمريكي لسبيين، الأول وهو عدم إصرار واشنطن على تنفيذ مقترحها، فهذه الخطوة كانت بمثابة إنذار للمغرب لكي يعيد حساباته الحقوقية في الصحراء وتتوقف الأجهزة الأمنية المغربية عن ارتكاب الخروقات ضد الصحراويين أنصار تقرير المصير. ويتجلى الثاني في رغبة عدد من الدول مثل روسيا وفرنسا بعدم تغيير مهام وطبيعة قوات المينورسو في الصحراء في الوقت الراهن لتفادي حدوث تطورات غير مرتقبة قد تجعل النزاع يخرج من السيطرة السياسية لاسيما في وقت كانت القوات الفرنسية تشن حربا ضد تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي في دول الساحل وأساسا مالي وفي وقت يشهد فيه العالم العربي انتفاضات من أجل الديمقراطية، وقد يزيد ملف الصحراء الوضع تعقيدا في المغرب العربي.

وتسعف أربعة عناصر رئيسية في فهم التطورات التي يشهدها ملف الصحراء خلال السنوات الأخيرة وسترسم بشكل كبير مستقبل النزاع. ويتجلى العنصر الأول في الحضور المتنامي لمفهوم حقوق الإنسان في العالم وخاصة النزاعات السياسية والإثنية، والعنصر الثاني يتجلى في استراتيجية الدفاع عن الثروات في الصحراء، والثالث يتمثل في عودة ما يسمى بالدولة الإثنية في العالم مع بداية القرن الواحد والعشرين ومنها في أوروبا وفي مناطق لا تعرف نزاعات مثل اسكوتلندا، وأخيرا الأجندة المستقبلية للولايات المتحدة والتي جعلت المغرب يفقد وزنه الإستراتيجي الذي كان يتمتع به سابقا في مخططات البنتاغون.

وهذه العناصر الأربعة ليست بالطارئة في الأجندة الدولية بقدر ما أنها حاضرة منذ مدة طويلة في السياسة الدولية. ولكنها أخذت بعدا قويا خلال السنوات الأخيرة بحكم أن كل مرحلة تشهد بروز معطيات تاريخية وجيوسياسية واقتصادية وسياسية وإديولوجية وعسكرية تحسم في بلورة بانوراما جديدة. وهذا التحول يتطلب الفهم والاستعياب للتأقلم معها خاصة بالنسبة للدول التي لديها ملفات مطروحة وسط المنتظم الدولي كما هو عليه الشأن بالنسبة للمغرب في نزاع الصحراء، وتكون هذه الدولة ضعيفة وليست بالقوة الإقليمية.

وراهن البوليساريو منذ سنوات على هذه العناصر الأربعة في صياغة ورسم استراتيجية جديدة للدفاع عن موقفه في نزاع الصحراء في مواجهة المغرب وسط المنتظم الدولي. وبدأ في تطبيق بعض عناصر  هذه الاستراتيجية وقطع فيها أشواطا. ومن نتائج استراتيجية البوليساريو أن الدبلوماسية المغربية فقدت زمام المبادرة وأصبحت في بعض المناسبات وخاصة في ملف حقوق الإنسان مطالبة بالرد على هذه الاستراتيجية بدل نهج أخرى خاصة بها تجعل البوليساريو في موقف دفاعي وليس هجومي.

ورهان البوليساريو على العناصر المذكورة يدخل ضمن اقتناعه ووعيه التام بصعوبة العودة الى الرهان على الحرب، وحتى وإن اندلعت فمكتسباتها قد تكون محدودة للغاية وإن كانت ستحرك المجتمع الدولي للبحث عن الحل. رهان البوليساريو جعله نسبيا يحقق مكتسبات وهي إقناع المنتظم الدولي على التفكير جديا في إنهاء هذا النزاع والتعامل معه كملف سياسي وإنساني واستعماري لا علاقة له بالحرب الباردة.

حقوق الإنسان

ابتداء من عقد التسعينات، أصبح ملف حقوق الإنسان من المواضيع الأكثر حضورا في أجندة العلاقات الدولية وأخذ حجما أقوى خلال السنوات الأخيرة. وحضور هذا الملف في الساحة الدولية يخضع لمفهومين أو رؤيتين أو تأويلين مختلفين، الأول يتجلى في التوظيف السياسي للضغط على دولة معينة حيث تعمد دول كبرى معينة لتوظيفه حقوق الإنسان تجاه دول معينة دون الأخرى. ويخضع المفهوم الثاني لمفاهيم خالصة لحقوق الإنسان بدون خلفية سياسية.

في هذا الصدد، أصبحت الجمعيات الحقوقية الدولية الكبرى مثل أمنستي أنترناشنال تلعب دورا رئيسيا في صياغة وصنع القرارات الدولية في العديد من قضايا النزاع المطروحة على المنتظم الدولي. وفي حالة الصحراء، أصبح دورها لافتا خلال العقد الأخير. وعمليا تعتبر هذه الجمعيات من محركي المسودة الأمريكية في مجلس الأمن التي كادت أن تفرض تكليف قوات المينورسو مراقبة حقوق الإنسان في القرار الأخير أبريل 2013.

واستعراضا للعلاقة بين المغرب وهذه الجمعيات، فقد مارست الأخيرة ضغوطات على  المغرب خلال العشرين سنة الأخيرة وأثرت سلبا على علاقاته الدولية ودفعته الى تقديم تنازلات أو إصلاح خلل وسلبيات في مفهومه لبعض الملفات ومنها الاعتقال السياسي. ولا يمكن فصل الانفراج السياسي واحترام الدولة المغربية لحقوق الإنسان في المغرب خلال العقدين الأخيرين بمعزل عن مساهمة هذه الجمعيات في هذا الشأن. وتاريخيا، توجد مرحلتان، الأولى سنة 1994 والسنوات اللاحقة لها والثانية خلال السنوات الأخيرة.

وعلاقة بالمرحلة الأولى، ضغطت هذه الجمعيات على المغرب بشكل كبير للغاية في بداية التسعينات وأقنعت الاتحاد الأوروبي (وقتها السوق الأوروبية) برفض بعض الاتفاقيات ومنها الزراعية طالما لم يفرج نظام الحسن الثاني المعتقلين السياسيين. وخضع الملك الراحل للضغط الأوروبي:

والمرحلة الثانية هي المتعلقة أساسا بالصحراء وناتجة عن توظيف ذكي ومستمر للبوليساريو بدعم من الجزائر لملف حقوق الإنسان. وعمليا، تحولت الجمعيات الحقوقية الكبرى وهي أساسا أمنستي أنترناشنال ثم هيومن رايتس ووتش  وأخيرا مؤسسة روبرت كينيدي الى فاعل رئيسي في القرارات الخاصة بالصحراء.

ولم تدرك المؤسسة الملكية المغربية ومحيطها الدور الذي أصبح للجمعيات الحقوقية في صنع القرار الدولي وخاصة المتعلق بالنزاعات بحكم أن النزاعات تشهد خروقات. وهذا القصور في الفهم هو الذي جعل المغرب يدخل في مواجهة مع الجمعيات بدل نهج سياسة الحوار وفهم طريقة عملها والتواصل معها.

التأثير البارز لهذه الجمعيات على المستوى السياسي يتجلى في نجاحها في إقناع شركاء رئيسيين للمغرب وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة استعمال الورقة الحقوقية للضغط على المغرب. ومن أبرز عناوين هذا الضغط والنتائج المترتبة عنه، إصدار الاتحاد الأوروبي بيانات رسمية يندد فيها بخروقات حقوق الإنسان، ثم قرار البرلمان السويدي في ديسمبر 2012 بالاعتراف بما يسمى جمهورية الصحراء معتمدا من ضمن العناصر الرئيسية العنصر الحقوقي.

وسيستمر عنصر حقوق الإنسان كواجهة ذات ثقل قوي في النزاع، ومعالجة المغرب لهذا الملف هو الرفض المطلق  للتدخل الأممي. وأوضح الملك محمد السادس في هذا الصدد في خطاب عيد العرش يوم 30 يوليو 2013 أن الصيغة الوحيدة لمراقبة حقوق الإنسان تمر أساسا عبر  المجلس الوطني لحقوق الإنسان.

ومن جهته، يستمر البوليساريو في الرهان على عنصر حقوق الإنسان. وما بين سنتي 2012 ومنتصف 2013، وجه زعيم الجبهة محمد عبد العزيز أكثر من عشر رسائل الى الأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون يطالب بتدخل أممي في الصحراء لحماية الصحراويين، وذلك بسبب الخروقات التي تحدث خلال مناوشات واعتداءات بين القوات الأمنية وأنصار تقرير المصير.

عنصر حقوق الإنسان تحول الى معطى ثابت في صراع الصحراء، وتفيد معطيات الواقع بنجاح البوليساريو في إدارة هذا الملف بشكل كبير وذكي، وإن كان المغرب قد استطاع حتى الآن المقاومة في المنتديات الدولية ومنها الحيلولة دون تنصيص مجلس الأمن على مراقبة حقوق الإنسان. لكن ما يعتبره المغرب مقاومة يبقى في أعين الرأي العام الدولي استمرار في ارتكاب الخروقات ضد الصحراويين، وهذا هو الإشكال الذي ينعكس سلبا على مصالح المغرب في هذا النزاع.

استراتيجية الثروات

العنصر الثاني الذي بدأ يلقي بتأثيراته على ملف الصحراء هو ملف الثروات، ونعني بهذا، استغلال المغرب للثروات الطبيعية في الصحراء ونهج جبهة البوليساريو استراتيجية الحد وعرقلة أي تواجد اقتصادي دولي في الصحراء بما فيها الاستثمارات الأجنبية والاتفاقيات الدولية وتصدير منتوجات الصحراء. وتهدف البوليساريو من وراء هذا الى إظهار المغرب فاقدا للسيادة ولا يمكنه استغلال منتوجات الصحراء دوليا. وهذه الاستراتيجية تعلمها البوليساريو من الفلسطينيين في شن معارضة ضد منتوجات الأراضي المحتلة من طرف إسرائيل.

ويبقى المنعطف الرئيسي في هذه الاستراتيجية هو نجاح اللوبي الموالي للبوليساريو في البرلمان الأوروبي من إبطال اتفاقية الصيد البحري في تصويت حدث يوم 14 ديسمبر 2011. ويساهم المغرب بدوره في إنجاح هذه الاستراتيجية  بدون وعي منه. ولعل الخطئ الفادح الذي ارتكبه في هذا الشأن هو توقيعه سنة 2004 على اتفاقية التبادل التجاري الحر مع الولايات المتحدة وقبل شروط واشنطن باستثناء منطقة الصحراء من الاستفادة من هذه الاتفاقية، حيث خلق بهذا تقليدا للقياس.

وأصبحت عملية تنفيذ هذه الاستراتيجية تخضع لهيكلة حقيقية تعتمد أساسا على مرصد أنشأه البوليساريو في مدينة العيون وذو تشعبات دولية بفتحه مباحثات مستمرة مع اليسار  في أوروبا وكذلك مع لوبي المزارعين في البرلمان الأوروبي مستغلا استياءهم من الصادرات الزراعية المغربية ةما تشكله من منافسة. واستعراضا لهذه الاستراتيجية، فقد حقق البوليساريو ما يلي من نتائج:

-إلغاء البرلمان الأوروبي لاتفاقية الصيد البحري مع المغرب يوم 14 ديسمبر 2011، وتعتبر هذه نكسة حقيقية، إذ لأول مرة يتم فيها اتخاذ قرار من هذا النوع. وتذرع البرلمان الأوروبي بكون الاتفاقية كانت تشمل مياه الصحراء وأنه وفق الأمم المتحدة لا يمكن الصيد فيها. وعملية الإلغاء تشكل المنعطف التاريخي في توظيف ملف ثروات الصحراء في النزاع القائم بين المغرب والبوليساريو. وبعد سنة ونصف من المفاوضات صادق البرلمان الأوروبي على الاتفاقية يوم 10 ديسمبر ولكن بشروط مرتبطة بحقوق الإنسان في الصحراء واستثمار جزء من التعويض في الصحراء. وبهذا ارتكب المغرب خطئا آخرا بتمييزه الصحراء عن باقي المغرب.

-الصعوبة التي واجهها المغرب في تجديد اتفاقية التبادل الزراعي خلال فبراير 2012 على خلفية منتوجات الصحراء، والمقلق أن المحكمة الأوروبية في استراسبوغ قد تقضي ببطلان هذه الاتفاقية أو تأمر بسحب منتوجات منطقة الصحراء من التصدير بعدما قدم البوليساريو دعوى أمام القضاء الأوروبي لكي لا تشمل الاتفاقية منتوجات الصحراء.

-طرح الاتحاد الأوروبي في اتفاقية التبادل الحر مع المغرب استثناء منتوجات الصحراء من المفاوضات على شاكلة ما قبل المغرب به مع الولايات المتحدة.

-رضوخ بعض شركات التنقيب عن النفط من أستراليا والنروج لضغوطات لوبي البوليساريو وانسحبت من التنقيب عن البترول في شواطئ الصحراء.

-قرار بعض المتاجر الكبرى في السويد والدنمرك ابتداء من سنة 2013 عدم استيراد منتوجات الصحراء، وهي ظاهرة تنتقل الى مجموع دول شمال أوروبا مثل النروج وفلندا وربما هولندا.

-تأسيس مراصد متعددة وفروع لها على المستوى الدولي بل وكذلك في الصحراء مثل مؤسسة “راصد” لمنع استغلال ثروات الصحراء مستقبلا التي بدأت تحظى باستقبال من المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في نزاع الصحراء كريستوفر روس.

عودة الدولة الإثنية

خلال السنوات الأخيرة، تعرض المغرب الى ضغط خلال اندلاع ملفات يفترض أنها شبيهة بالصحراء. وأبرز هذه الملفات تيمور الشرقية ثم انفصال جنوب السودان، حيث كانت تلقي بتأثيراتها على نزاع الصحراء، ولم تكن هذه التأثيرات قوية بحكم عدم امتدادها لاحقا بل بقيت محصورة زمنيا. لكن وجود ملفات أخرى مشابهة في أوروبا سيحمل تأثيرا ووقعا سياسيا. في هذا الصدد، يتخوف المغرب من تطورات الملف القومي-الإثني في أوروبا بسبب مسلسلات تقرير المصير التي قد تشهدها بعض الدول قريبا وخاصة في اسكولتندا للبقاء ضمن بريطانيا أو الانفصال وتأسيس دولة مستقلة نهائيا، والأمر نفسه مع إقليم كتالونيا الإسباني.

ويسود الاعقاد وفق معطيات الواقع وآراء بعض الدبلوماسيين الأوروبيين بما في ذلك الإسبان أن انعكاسات الملف الاسكوتلندي والكتالاني على الصحراء سيكون قويا ومباشرا للغاية. ولعل نقطة القوة للبوليساريو والتي هي نقطة ضعف للمغرب بشأن التأثير  هو  أن استفتاء تقرير المصير في كتالونيا 9 نوفمبر المقبل) واسكوتلندا (14 سبتمبر المقبل) ستجري في مناطق غير مسجلة في الأمم المتحدة كمناطق تخضع لتصفية الاستعمار بل هي جزء من المملكة الإسبانية في حالة اسبانيا، والمملكة المتحدة في حالة اسكوتلندا.

ورغم ذلك، فقد قبلت لندن استفتاء تقرير المصير في اسكتوتلندا، تحاول حكومة مدريد المركزية تفادي استفتاء كتالونيا ولكنها قد تقبل في آخر المطاف لأن حكومة الحكم الذاتي في كتالونيا مصممة على هذا الاستفتاء وتعمل من أجله بل وتقوم بتدويل الملف.

وهذا المعطى لن يصب في صالح المغرب الذي سيجد نفسه تحت ضغط دولي قوي لقبول استفتاء تقرير المصير الذي يتجنبه ويطرح بدله الحكم الذاتي. وسيكون الوضع في الساحة الدولية هو الكتالي: كيف يرفض المغرب تقرير المصير في منطقة متنازع عليها أمام المتحدة وتقبله دول مثل بريطانيا في مناطق غير متنازع عليها مثل اسكوتلندا؟

وفي الوقت نفسه، شاءت الظروف أن كل من اسبانيا وبريطانيا تنتميان الى “جمعية أصدقاء الصحراء الغربية” وتؤيدان تقرير المصير في الصحراء خاصة بريطانيا التي تتبنى مواقف صارمة تجاه المغرب. وسيزيد البلدان من الضغط على المغرب في تقرير المصير بعد تطبيقه في كل من اسكوتلندا وكتالونيا، ولن يتفهما أبدا موقف المغرب وخاصة البريطانيين.

وأصبحت بريطانيا الدولة الأكثر تشددا في ملف الصحراء سواء في معارضة الاتفاقيات التي يوقعها المغرب مع الاتحاد الأوروبي، أو في الأمم المتحدة.

استفتاء اسكوتلندا واستفتاء كتالونيا وكذلك تطورات الوضع في بلجيكا المهددة بالإنقسام ستزيد من قوة مبدأ تقرير المصير في العالم. وهذه التطورات هي مظهر من مظاهر عودة الدولة القومية القائمة على الإثنية، وإن كانت دول صغيرة. فقد بدأ هذا التطور السياسي مع ما جرى في البلقان من تفكك يوغوسلافيا التي أعطت دول عديدة منها صربيا وكرواتيا وكوسوفو  وكذلك تشيكوسلوفاكيا وانتقلت الى تيمور الشرقية وجنوب السودان.

ونزاع الصحراء الذي جرى تقديمه بمثابة تصفية استعمار، يتخذ طابعا جديدا وهو صبغة النزاع الإثني في الوقت الراهن، اي مطلب من مطالب الدولة القائمة على مميزات ثقافية وإثنية معنية.

وهذه الصفة الجديدة التي اكتسبها النزاع ويعمل البوليساريو على ترسيخها هي التي أكسبته تأييد وتعاطف العالم الأنجلوسكسوني الذي يؤمن بحقوق الإثنيات وإن تطلب الأمر منحهم دولة خاصة بهم باستثناء التماطل الحاصل في القضية الفلسطينية.

تغيرات في الإدارة الأمريكية

العنصر الرابع المقلق لمصالح المغرب في ملف الصحراء دوليا يتجلى في التغييرات التي شهدتها مراكز صنع القرار ابتداء من سنة 2012 في الولايات المتحدة والتي حملت معها استراتيجية جديدة لواشنطن تجاه العالم، ثم برودة في العلاقات المغربية-الأمريكية وأخيرا تعيينات في الإدارة الأمريكية في مناصب حساسة للغاية غير ودية للمغرب.

خلال سنة 2012، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن تغيير استراتيجي وتاريخي في سياسة بلاده المستقبلية مؤكدا أن المستقبل سيتمحور وآخذ في التبلور في المحيط الهادي بين ضفتي الولايات المتحدة وآسيا. فالمنطقة تضم الصين وآسيا وروسيا وكوريا الجنوبية علاوة على كندا والولايات المتحدة والمكسيك ودول أخرى. وبهذا يفقد المحيط الأطلسي قيمته الاستراتيجية، فالقرن 21 هو قرن المحيط الهادي. ومع هذا التغيير يفقد المغرب الأهمية الاستراتيجية التي تمتع بها إبان الحرب الباردة. وفقدان هذه الأهمية يجعله يفقد مدافعين سياسيين عنه.

في الوقت ذاته، تميزت العلاقات المغربية-الأمريكية ببرودة واضحة منذ وصول باراك أوباما الى رئاسة الولايات المتحدة، والرئيس الأمريكي متأثر بنظرة نلسون مانديلا للقارة السمراء، ومن ضمنها حق تقرير مصير الصحراويين الذي تدافع عنه جنوب إفريقيا بقوة. وعلاوة على هذه البرودة على مستوى القصر الملكي والبيت الأبيض، فقد تقدمت واشنطن الى مجلس الأمن بمقترح مراقبة قوات المينورسو لحقوق الإنسان في منطقة الصحراء خلال مناقشة قرار جديد أبريل 2013 حول الصحراء. ورغم فشل المقترح الأمريكي، إلا أنه يبقى منعطفا تاريخيا في برودة العلاقات المغربية-الأمريكية وفقدانها الطابع الاستراتيجي.

ومن التطورات الأخرى المقلقة هي التعيينات في مناصب حساسة في صناعة القرار الخارجي للسياسة الخارجية للبيت الأبيض  بشكل لا يصب في صالح المغرب نهائيا وبشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ السياسية الأمريكية تجاه المغرب. ويتعلق الأمر بتعيين باراك أوباما لجون كيري في منصب وزير الخارجية، وهو السياسي الذي سبق وأن وقع سنة 2001 رفقة أعضاء من مجلس الشيوخ منهم كيندي وثيقة تطالب الإدارة الأمريكية بدعم تقرير المصير في الصحراء.

ويتعلق التعيين الثاني بتولي السفيرة السابقة في مجلس الأمن سوزان رايس منصب مستشارة الأمن القومي، بينما يتجلى الثالث في تعيين المناضلة الحقوقية سامنثا بوير في منصل سفيرة واشنطن في مجلس الأمن.

ويعتبر منصب مستشار الأمن القومي ركيزة من ركائز الإدارة الأمريكية التي تقرر في التوفيق بين المصالح الأمنية والسياسة الخارجية في الساحة الدولية. والمواقف اليسارية لسوزان رايس ستجعلها تميل نسبيا نحو التخفيف من الرؤية العسكرية للأمن القومي وتغليب ما تعتبره سياسة منفتحة على حقوق الإنسان لاسيما في ظل التغيرات الحالية بعد الربيع العربي بشأن العالم العربي.

وتاريخيا، كانت مؤسسة استشارية الأمن القومي تدافع عن المغرب في ملف الصحراء. ولعل أبرز حادث في هذا الإطار، المواجهة القوية التي وقعت بين مستشار الأمن القومي إبراهام إليوت وسفير واشنطن في الأمم المتحدة جون بولتون سنة 2006 حول نزاع الصحراء. شدد السفير على ضرورة دفاع واشنطن على استفتاء تقرير المصير وتكليف المينورسو بمراقبة حقوق الإنسان، ولكن إبراهام إليوت رفض المقترح ودخل معه في مواجهة في جلسة خصصت لنزاع الصحراء في البيت الأبيض. ويحكي جون بولتون الحادث في كتابه “الاستسلام ليس خيارا” الصادر  سنة 2007.

وإبان حقبة باراك أوباما، تولى توم دونيلون منصب مستشار الأمن القومي، ولم يبدي أي معارضة عندما تقدمت سوزان رايس بمقترح تكليف قوات المينورسو مراقبة حقوق الإنسان، وهو المقترح الذي لم ينجح في القرار 2099 المصادق عليه يوم 25 أبريل 2013. والآن، أصبحت سوزان رايس هي المسؤولة استشارية الأمن القومي، ولم يمنعها أي أحد من تطبيق رؤيتها في نزاع الصحراء لأن لها ميولات حقوقية.

وفي مظهر آخر يبرز غياب التوازن في رؤية الولايات المتحدة للمغرب، هو تولي سامنثا بوير سفارة واشنطن في الأمم المتحدة. والسفيرة الجديدة معروفة بدفاعها عن حقوق الإنسان بل وتعتبر صديقة للناشطة السياسية والحقوقية لأميناتو حيدر. ويبرز كتابها “أمريكا في عهد الإبادة الجماعية” الحاصل على بولتزير 2003 تعاطفها مع البوليساريو وتعاطفها مع منظمة العفو الدولية وجمعيات حقوقية أخرى.

وبهذا يكون المغرب قد فقد مخاطبين ومدافعين عن مصالحه في كل من المؤسسات التي تمثل السياسية الخارجية وصناعة القرار وهي وزارة الخارجية ومستشارية الأمن القومي وأخيرا سفارة واشنطن في الأمم المتحدة.

وقد زار الملك محمد السادس البيت الأبيض يوم 22 نوفمبر، وما حققه الملك هو “الحياد الإيجابي” للإدارة الأمريكية في الوقت الراهن. لكن هذه الزيارة لا تمنع من الحديث عن تغيير حقيقي لا يصب في مصلحة المغرب.

النزاع في مرحلته الأخيرة: بين الانفصال والكونفدرالية

اعتاد الخبراء الغربيون ومن ضمنهم رؤساء حكومات بعد اطلاعهم على ملف الصحراء القول أن الملف هو “قضية عادلة بمحام فاشل”، وذلك في تعليقهم على آداء الدبلوماسية المغربية في ملف الصحراء وهو أداء متميز بالضعف.

معطيات الواقع تشير الى سوء توظيف المغرب الاستفادة من الفرص التاريخية التي أتيحت له خاصة عندما كانت عدد من دول الغرب تحبذ الحكم الذاتي، لكن المؤسسة المخزنية غير قادرة على التطور لتطبيق الحكم الذاتي. وكشفت دراسة عسكرية أمريكية لمعهد الدراسات الاستراتيجية التابع للكلية الحربية للجيش الأمريكي صدرت في يونيو 2013 أن “الحكم الذاتي هو الأنسب لنزاع الصحراء لكن المغرب لا يتطور ديمقراطيا والفساد يمنعه من تطبيق هذا الحل”.

ووسط تراكم التطورات السلبية للمغرب سواء سوء تسييره للملف أو معطيات وعوامل دولية تضعف موقفه، يبقى التساؤل الذي يتردد المغاربة في طرحه علانية: هل يمكن للمغرب أن يخسر الصحراء كما خسر موريتانيا التي كان يعتبرها جزءا من أراضيه؟ التطورات الجارية في العالم وفي الصحراء نفسها، تكشف عن واقع آخذ في التبلور لا يصب في مصالح المغرب. واستعرض المقال العوامل الرئيسية الأربع التي تتحكم في الوقت الراهن في مسار الملف خاصة على المستوى الدولي. لكنه في الوقت نفسه توجد عوامل أخرى ذات طبيعة داخلية لها وزنها في هذا المسار وهي:

– غياب الوعي الحقيقي لدى الإدارة المغربية وجزء كبير من الطبقة السياسية بأن التاريخ يحمل مفاجأت ومنها احتمال انفصال الصحراء، لهذا يسود الاعتقاد أن “المغرب في أرضه أحب من أحب وكره من كره”. وهذه الأطروحة التي تحولت الى عقيدة في القاموس السياسي الرسمي المغربي تعتبر خطرا لأنها تسطر لثقة زائدة في النفس في وقت لا تصب التطورات العالمية  في صالح المغرب. واعترف الملك محمد السادس في آخر المطاف في خطاب 11 أكتوبر 2013 خلال افتتاح البرلمان بصعوبة الوضع، وهل سيكون هذا مقدمة لتحرك حقيقي وليس مناسباتي.

-ترحيب المنتظم الدولي بالحكم الذاتي كمقترح ولكن لم يتم تبنيه كحل لنزاع الصحراء بل تستمر الأمم المتحدة في التنصيص على تقرير المصير في جميع القرارات التي يصادق عليها مجلس الأمن. ويقتصر المغرب على الترويج للحكم الذاتي بدون الأخذ بعين الاعتبار أن العالم قد يفرض استفتاء تقرير المصير.

-ارتفاع أنصار تقرير المصير في الصحراء والذين بدأوا يحتلون فضاءات سياسية علانية في قلب المدن الكبرى مثل سمارة والعيون والداخلة، وينتظمون في إطارات سياسية ومدنية تعمل على تقسيم المجتمع الصحراوي وتعمق من ضعف الدولة المغربية لاسيما في ظل ضعف مؤسسات اقترحتها الدولة مثل المجلس الملكي للشؤون الصحراوية.

-هيمنة ما يمكن تسميته “دبلوماسية تقديم الخدمات” على الفكر الدبلوماسي المغربي للحصول على الدعم السياسي في ملف الصحراء. ووظف المغرب الحرب الباردة للحصول على الدعم الغربي لتفادي فرض تقرير المصير. وبعد انتشار الإرهاب، انخرط المغرب في الحرب الذي شنتها الولايات المتحدة على الإرهاب بغية التمتع بدعم الغرب لتفادي استفتاء تقرير المصير. لكن “استراتيجية الخدمات” لم تعد صالحة في وقت يشهد العالم تغييرات عميقة تتطلب فهما أعمق لهذا العالم.

نقلت الجريدة الرقمية ألف بوست خلال شهر يوليوز 2013 عن مصدر دبلوماسي أمريكي اشتغل بالمغرب قوله أن “نزاع الصحراء الغربية قد اقترب من فصله الأخير لأنه يجب فرض حل”. البحث عن الحل سيستمر بالرهان على الحكم الذاتي في ظل سيادة مغربية، وكذلك استفتاء تقرير المصير وتأسيس دولة جديدة في تكرار لتجربة موريتانيا. ويحضر الحل التوفيقي من خلال الرهان على الكونفدرالية بين المغرب والصحراء، سبق لصاحب هذا المقال أن سماه “الاختيار الرابع” في مقال في وجهة نظر سنة 2010.

الحلول الثلاثة مطروحة وواردة وإن كانت بنسب مختلفة، لكن يبقى الأكيد أن نزاع الصحراء اقترب من مراحله الأخيرة. وعليه، فالحل لم يبق عليه سوى سنوات قليلة بعد أربعة عقود طويلة من النزاع.

 

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password