تشهد أروقة مفوضية الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي حربا حقيقية بين المغرب وجبهة البوليساريو بدعم كبير من الجزائر تهدف الى التأثير على مضمون اتفاقية الصيد البحري. واضحت الاتفاقية تحديا دبلوماسيا للطرفين على الرغم من أن حجمها الاقتصادي محدود للغاية، وكان الأجدر بالمغرب عدم تجديد هذه الاتفاقية لأنها تمس بسيادته.
ومنذ استقلال المغرب، شكل ملف الصيد البحري مصدر توتر دبلوماسي بين الرباط ومدريد. وكان في البدء يكتسب أهمية سياسية واقتصادية، فمن جهة أسعف المغرب في التفاوض مع اسبانيا حول استعادة أجزاء من الصحراء تدريجيا مثل طرفاية وسيدي إيفي ثم الصحراء بالكامل، ومن جهة أخرى كان يمتلك معنى اقتصاديا بحكم أن التعويض كان يساهم في الرفع من ميزانية المغرب في وقت كانت موارد البلاد محدودة.
ومنذ انضمام اسبانيا الى الاتحاد الأوروبي سنة 1986، لم تعد اسبانيا هي المفاوض لتجديد اتفاقية الصيد بل الاتحاد الأوروبي. واكتسب الملف بعدا سياسيا مقلقا لا يصب في مصالح المغرب خلال السنوات الأخيرة. ويعتبر هذا الملف من ضمن العناصر التي فجرت العلاقات المغربية-الإسبانية في بداية العقد وأدت الى أزمة جزيرة ثورة لأن المغرب التزم بتجديد الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي وتراجع في آخر المطاف، واعتبر رئيس الحكومة الإسبانية وقتها خوسي ماريا أثنار أن المغرب تلاعب به سياسيا ودبلوماسية.
وقرر المغرب سنة 2001 وقف اتفاقية الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي بشكل نهائي، ولنه وبشكل مفاجئ وإن كان بدون براءة سياسية، قرر سنة 2005 تجديد الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي. وكان القرار بمثابة هدية الى رئيس الحكومة الإسبانية الجديد وقتها خوسي لويس رودريغيث سبتيرو وضدا في الحزب الشعبي. ولم يكن قرار المغرب صائبا في تجديد اتفاقية الصيد البحري لأسباب متعددة:
-وعكس الكثير من المقالات المغربية التي تبالغ في أهمية الاتفاقية لإسبانيا، فهذه الاتفاقية لا تفيد بشكل واضح سوى قرية صغيرة اسمها بارباتي في الضفة الشمالية لمضيق جبل طارق وبعض السفن في جزر الكناري. وتنص الاتفاقية على الترخيص لحوالي مائة سفينة وقارب أوروبي معظمها من اسبانيا وعادة تبقى رخص لا يقبل عليها الصيادون الإسبان. وعمليا، هذا لا يشكل شيئا أمام الأسطول الإسباني الذي يبلغ في وقتنا الراهن عشرة آلاف و116 سفينة صيد، أي أقل من 1% من أسطول الصيد.
في الوقت ذاته، ميزانية التعويض التي يتوصل بها المغرب لا تتعدى 40 مليون يورو سنويا، وهو مبلغ أمام التحديات السياسية والدبلوماسية لا يشكل شيئا يذكر من الناحية المالية لميزانية المغرب العامة.
ولكن يبقى الشق السياسي سواء لإسبانيا أو المغرب أو جبهة البوليساريو هو الأساسي.
بالنسبة لإسبانيا، مصادر الحزب الشعبي تعترف أن اتفاقية الصيد البحري بين المغرب والاتحاد الأوروبي لا تحمل أي قيمة اقتصادية حقيقية، ولكن حكومة ماريانو راخوي لا تريد أن تبدو أمام الإسبان وخاصة جنوب الأندلس أنها عاجزة عن تجديد الاتفاقية أو أقل مناورة عن الحكومة الاشتراكية السابقة في هذا الشأن. فاتفاقية الصيد لديها رمزية سياسية وليس اقتصادية.
جبهة البوليساريو وجدت في اتفاقية الصيد البحري خير وسيلة لتطبيق استراتيجية الدفاع عن الثروات البحرية، واستطاعت بدعم من الجزائر ولوبي أوروبي قوي من إلغاء هذه الاتفاقية يوم 14 ديسمبر 2011. وكانت انتكاسة حقيقية للدبلوماسية المغربية.
وعلاقة بالمغرب، يبدو أن صناع القرار في المغرب لم يمتلكوا رؤية بعيدة المدى للانعكاسات السلبية لهذه الاتفاقية على سيادة الصحراء، وهذا طبيعي في ظل غياب نقاش برلماني على الاتفاقية وفي ظل تقاعس الباحثين المغاربة على تقديم دراسات ذات مصداقية. فقد قبل المغرب بتجديد الاتفاقية سنة 2005 متراجعا عن القرار الذي كان قد اتخذه سنة 2001. واتخذ القرار دون أن يدرك خطورة استراتيجية البوليساريو توظيف ثروات الصحراء أو أنه استهان بها. ويحاول المغرب حاليا تجديد الاتفاقية، ووقع على الاتفاقية التي لم يكشف عن مضمونها الحقيقي للرأي العام والتي تنتظر مصادقة البرلمان الأوروبي عليها الشهر المقبل.
البرلمان الأوروبي سيصادق على الاتفاقية بعد اتفاق بين أكبر حزبين في هذا البرلمان، الحزب الاشتراكي الأوروبي والحزب الشعبي الأوروبي، ولكن هل يشكل هذا انتصارا ديبلوماسيا لمغرب؟ الجواب يحتمل نعم ويحتمل لا.
الحكومة المغربية لم تعرض الاتفاقية على اللجنة البرلمانية المكلفة بالعلاقات الخارجية والدفاع. وبهذاتعيد الدولة المغربية خطئا فادحا ارتكبته في اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة. إذ قبلت الرباط باستثناء منطقة الصحراء من الاتفاقية معترفة بدون وعي أن الصحراء لا يسري عليها القانون المغربي.
التنازلات التي قدمها المغرب في الاتفاقية والتي تمس السيادة هي تقديمه فواتير للاتحاد الأوروبي تبرز أنه يستثمر جزء من التعويضات في الصحراء، ثم قبوله بفك الاتفاقية في حالة ما إذا اعتبر الأوروبيون أنه قام بخروقات في الصحراء. وقال وزير الزراعة والصيد البحري الإسباني في البرلمان الأوروبي يوم 22 أكتوبر الماضي “الاتفاقية تأخذ جميع مخاوف النواب بشأن الصحراء وحقوق الإنسان”.
وبهذا يكون المغرب قد أعطى وضعا خاصا للصحراء في الاتفاقية عن باقي مناطق المغرب وكأنها منطقة غير مغربية. ويبقى التساؤل هل هذا يصب في مصحلة سيادة المغرب؟
الاتحاد الأوروبي شريك رئيسي للمغرب، وكان من الأجدر تفادي توقيع الاتفاقية بشروط تمس السيادة على الصحراء لتفادي تكرارها في الاتفاقيات المقبلة وحتى لا تصبح حجة مستقبلا ضد المغرب. دبلوماسية المغرب ارتكبت خطئا في اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الأمريكية بقبولها استثناء الصحراء، ولم تستفد من ذلك الخطئ، وها هي تكرر الخطئ نفسه مع الاتحاد الأوروبي.