يوم 26 سبتمبر الماضي، ألقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطابا في الأمم المتحدة مهددا كوريا الشمالية بالفناء التام ووصف رئيس هذا البلد كيم جونغ أون بالرجل الصاروخ، لكن شهورا بعد ذلك، وبالضبط يوم12 الجاري، اجتمع المسؤولان في لقاء تاريخي في سنغافورة. لقاء جعل كوريا الشمالية تغادر ما اصطلح عليه سابقا محور الشر، وقد يحمل انعكاسات كبرى على الوجود الأمريكي في الخارج مستقبلا. وهذا اللقاء قد يمهد لتكرار المفاجأة مع إيران.
من الحرب إلى طاولة السلام
وحدث هذا التغيير في المواقف في ظرف وجيز جدا بعدما كان العالم ينتظر حربا وشيكة بهجوم أمريكي على كوريا الشمالية واندلاع حرب نووية. وتعتبر منطقة كوريا بحريا وبريا من المناطق في العالم التي تشهد وجودا لمختلف الأسلحة المتطورة بما فيها النووية.
وتختلف زوايا المعالجة لهذا اللقاء التاريخي، هل يمكن النظر إليه من زاوية العلاقات الدولية الكلاسيكية أم بمنظار الرؤية الأمريكية الداخلية الآخذة في التبلور خاصة بعد وصول دونالد ترامب إلى رئاسة البلاد، وما شكله من هزيمة لما يعرف بالدولة العميقة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة؟
دوليا، يعتبر اللقاء بين ترامب وكيم جونغ أون تاريخيا لأنه بداية ترجمة تغيرات عميقة في الفكر الاستراتيجي للإدارة الأمريكية وخاصة في الشق المتعلق بالمجال العسكري وانتشار الولايات المتحدة في العالم. وكانت الوثيقة التي وقع عليها الرئيسان مقتصرة ولكنها دالة للغاية: وجرى الاتفاق على النقاط التالية، وفق الترجمة العربية للنص الذي نشرته وكالة الأنباء لكوريا الشمالية:
1. تلتزم الولايات المتحدة وجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية بإقامة علاقات جديدة بينهما وفقا لرغبة شعبي البلدين في السلام والازدهار.
2. ستضم الولايات المتحدة وجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية جهودهما لبناء نظام سلام دائم ومستقر في شبه الجزيرة الكورية.
3. وإذ تؤكد مجددا على إعلان بانمونغوم في 27 نيسان/أبريل 2018 تلتزم جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية بالعمل على إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية بالكامل.
4. تلتزم الولايات المتحدة وجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية باستعادة رفات الأسرى والمفقودين، بما في ذلك الإعادة الفورية للذين تم تحديدهم بالفعل.
كوريا تغادر مثلث الشر
في هذا الصدد، تنتمي كوريا الشمالية، وفق الفكر السياسي والعسكري الأمريكي، إلى مثلث الشر إلى جانب العراق وإيران. وقد جرى سحب العراق من هذا المثلث بعد الغزو، والآن سحب كوريا الشمالية بعد التفاهم التاريخي في أعقاب لقاء سنغافورة، وبقيت إيران لوحدها.
وعلاقة بهذه النقطة، لا يمكن استبعاد مفاجأة في العلاقات الأمريكية – الإيرانية رغم التوتر بين البلدين بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق السداسي بشأن الملف النووي الإيراني. ولا يستبعد مصدر عليم بتوجهات الإدارة الأمريكية الجديدة نهج ترامب منطق المناورة في التعامل مع إيران، ويتجلى في التصعيد العلني بينما سرا وبعيدا عن أنظار المراقبين البحث في الكواليس عن تفاهم يؤدي إلى اتفاق تاريخي. وهذه هي المنهجية التي اعتمدها مع كوريا الشمالية، التهديد بالحرب علانية والحوار سرا للتمهيد للقاء سنغافورة.
ويأتي لقاء سنغافورة ضد كل التقارير الاستخباراتية الأمريكية والغربية التي كانت تعتبر كوريا الشمالية دولة متمردة ومارقة لا يمكن الثقة بها. لهذا، كان الرئيس كيم سونغ أون بليغا عندما قال بوجود دخان كان يحجب «البصيرة» عن الواقع الحقيقي، في إشارته إلى النوايا الحقيقية لكوريا الشمالية التي كانت تبحث عن آليات الحوار المناسب مع واشنطن وليس المواجهة. وفي دوره، خرق ترامب البروتوكول الأمريكي بعدما وصف كوريا الشمالية بالصديق في أول لقاء مع رئيسها، وتكهن بعلاقات مزدهرة مستقبلا بينما كان صقور الخارجية والبنتاغون يطالبونه بحذر أعمق.
ولقاء سنغافورة دون استبعاد تقارب مع إيران مستقبلا رغم التوتر العلني حاليا يدخل ضمن الفكر العسكري الجديد الآخذ في التبلور في الولايات المتحدة ويتجلى فيما يلي: لا يمكن الانشغال بملفات هامشية مثل كوريا الشمالية والعراق وإيران ضمن أخرى تلهينا عن الهدف الحقيقي الذي هو الصين، الدولة التي تهدد ريادة الولايات المتحدة للعالم مستقبلا.
ومن ضمن الأسئلة التي جرى طرحها في الملف النووي لكوريا الشمالية وسط الإدارة الأمريكية الجديدة هي: هل كوريا لديها ما تخسره في حالة الحرب؟ وكان الجواب لا، فهي دولة عسكرية قوية ولكنها ضعيفة اقتصاديا وقادرة على تدمير كوريا الجنوبية واليابان وإلحاق أضرار فادحة بالأمن القومي الأمريكي. وبهذا، كان الرهان على الحوار السلمي الذي أتى ثماره في لقاء سنغافورة.
ويشكل اللقاء ضربة قوية لأكبر لوبي في الولايات المتحدة وهو التجمع العسكري – الصناعي الذي كان قد حذّر منه الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت إيزنهاور يوم 17 كانون الثاني/يناير 1961 حيث اعتبر تحالف الصناعة العسكرية مع مسؤولين عسكريين من أكبر المخاطر التي تهدد البلاد. وجاءت تصريحات إيزنهاور، الذي كان جنرالا من خمسة نجوم، بعدما لمس مدى تأثير هذا اللوبي في جعل الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي تتفاقم إلى مستويات خطيرة. ويعتقد الكثير من المؤرخين في وقوف هذا اللوبي وراء اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي بسبب معارضته غزو كوبا وبسبب رغبته في الحوار مع موسكو وقتها، مما يعني الحد من الصناعة العسكرية. كما يقف وراء الكثير من النزاعات التي تورطت فيها الولايات المتحدة عبر العالم.
بداية الهزيمة
توقيع السلام مع كوريا الشمالية ومن ضمن ما يعني الاتفاق هناك تقليص نسبة الجيش الأمريكي في كل من كوريا الجنوبية واليابان، كما يعني تقليص الميزانيات المخصصة لدعم دفاع البلدين، وهذا يعد بالمليارات من الدولارات. وقد قام ترامب بإلغاء المناورات العسكرية بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة التي كانت مرتقبة كبادرة طيبة تجاه كوريا الشمالية بعد لقاء سنغافورة، وكمؤشر على التوجه الجديد الرامي إلى تقليص قوة اللوبي الصناعي – العسكري الأمريكي. وقال ترامب «نتخلى عن المناورات العسكرية لأنها مكلفة ومستفزة». وكما يدافع ترامب عن تقوية الاقتصاد الأمريكي عبر فرض الحمائية مجددا لاستعادة الشركات الأمريكية التي هاجرت إلى الخارج بحثا عن الربح السريع، فهو ومساعدوه يعتبرون التقليص من الانتشار العسكري والتقليل من التدخل في النزاعات العالمية ضرورة في الوقت الراهن. ولهذا، حاول ترامب سحب معظم قواته من أفغانستان والعراق وسوريا، لكنه يصطدم بقيادة البنتاغون واللوبي العسكري – الصناعي، كما يطالب الأوروبيين بتولي أمنهم بالرفع من الانفاق العسكري بدل الاعتماد على الولايات المتحدة.
ويرغب في استعادة دور الجيش ما قبل التسعينيات، وكان يتجلى ليس فقط في الدفاع عن البلاد بل المساهمة في بناء البنيات التحتية الكبرى للولايات المتحدة. ومن المعطيات التاريخية التي تغيب عن الكثير من المهتمين في الشأن الأمريكي هو المساهمة التاريخية للجيش في بناء كبريات الجسور والموانئ والمطارات الأمريكية، ومنها موانئ غرب البلاد.
يمكن قراءة اللقاء التاريخي في سنغافورة بين رئيسي الولايات المتحدة وكوريا الشمالية من مختلف الأوجه والزوايا، ويبقى الأساسي هو الاتفاق على برمجة تخلي كوريا الشمالية عن سلاحها النووي خلال السنوات المقبلة، وبهذا يتجنب العالم أزمة كانت تهدد الاستقرار العالمي ولم تنفع معها العقوبات في الماضي التي فرضتها مختلف الإدارات الأمريكية السابقة.
لكن هناك قراءة رئيسية تغيب في الصحافة الكلاسيكية وهي: كما هزم ترامب الإستبلشمنت الكلاسيكي في الانتخابات الرئاسية التي جرت خلال تشرين الثاني/نوفمبر 2016، يقوم الآن بهزم التجمع العسكري – الصناعي لسحب ورقة الانتشار العسكري في الخارج، وهو بداية منعطف في الفكر السياسي – العسكري الأمريكي في العلاقات الدولية آخذ في التبلور.