بعد مفاجأة الصواريخ: إسرائيل تخسر معركة الرأي العام في أوروبا وأمريكا اللاتينية

تظاهرة في لندن متضامنة مع فلسطين

شكلت الحرب التي دارت بين إسرائيل وجزء من المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة منعطفا كبيرا في مسار القضية الفلسطينية عسكريا وسياسيا ولاسيما الرأي العام الدولي في تعاطيه مع الملف. ويمكن التركيز على عودة القضية إلى الجاليات العربية في أوروبا أو الأوروبيين من أصل عربي، ثم استعادة زخمها في منطقة أمريكا اللاتينية بعدما كانت قد تراجعت بسبب تقدم اليمين وتراجع اليسار نسبيا خلال السنوات الأخيرة.
وانتهت الحرب فجر الجمعة من الأسبوع الجاري باتفاق هدنة بين إسرائيل وحماس. ورغم ارتفاع نسبة الضحايا في صفوف الفلسطينيين، يوجد شبه إجماع على اعتبار تحقيق المقاومة الفلسطينية انتصارا حقيقيا أخذا بعين الاعتبار السياق السياسي والعسكري، وذلك لسببين، الأول وهو عجز إسرائيل تنفيذ عملية عسكرية برية لاقتحام قطاع غزة والقضاء على ما تعتبره «الخطر الإرهابي» علاوة على نجاح المقاومة في ضرب العمق الإسرائيلي بالصواريخ رغم وجود القبة الحديدية، وثانيا عودة القضية الفلسطينية إلى أجندة الرأي العام العالمي بقوة كبيرة رغم بقاء منظمة التحرير الفلسطينية على الهامش بسبب قيادة حماس للمعركة.

انتعاش فلسطين في أوروبا

وعلاقة بالنقطة الأخيرة، الرأي العام الدولي، فقد كانت القضية الفلسطينية قد سجلت تراجعا في أمريكا اللاتينية ووسط الجاليات العربية في الغرب وأساسا في أوروبا. وهذا أدى وقتها إلى انحسار الإشعاع النضالي للملف وعانى الفلسطينيون كثيرا في المنتديات الدولية.
وفي هذا الصدد، تدرك إسرائيل ودبلوماسيتها وأجهزتها الاستخباراتية وعلى رأسها الموساد أن جزءا هاما من الحرب في هذا الصراع الذي يطول كثيرا يتمحور بشكل كبير حول الكيفية للحفاظ على رؤية معينة وسط الرأي العام العالمي، أي تقديم إسرائيل الضحية مقابل إبراز الفلسطينيين كإرهابيين رافضين للحلول الدبلوماسية.
ونجحت إسرائيل منذ الخمسينات وحتى بداية القرن 21 في الحفاظ على هذه الأطروحة خاصة في الغرب لعوامل منها استغلال الهولوكست إلى أعلى المستويات ثم الحرب الباردة نظرا لدفاع المعسكر الشرقي والأنظمة العربية التي كانت ترتبط به على الملف الفلسطيني. وبدأت إسرائيل تفقد هذه المعركة مع بداية القرن الواحد والعشرين، فقد بدأ واعتقاد جزء من الرأي العام الغربي أن تفجيرات 11 ايلول/سبتمبر مرتبطة ضمن عوامل أخرى بالصراع العربي-الإسرائيلي الذي يجب حله في أقرب وقت لسيادة السلام في الشرق الأوسط، ثم ظهور جيل جديد من المناضلين وسط الجاليات العربية في أوروبا ساعدته شبكة الإنترنت على تجاوز سواء الرقابة أو التحفظ الذي كان يفرضه الإعلام الغربي خاصة المرتبط بالإشتبلسمنت.
وبعد الربيع العربي، اهتمت الشعوب العربية بأوضاعها الداخلية، وعانت فلسطين من التهميش وانخرطت أنظمة في هذا التهميش. ولعل أبرز حدث معبر في هذا الشأن هو الذي شاهده العالم العربي بدهشة ممزوجة بالتقزز عندما اعتقلت الشرطة المصرية منذ سنوات شابا في ملعب في القاهرة كان يحمل علما فلسطينيا وحاكمته لاحقا وسط تهليل وترحيب بعض إعلاميي السلطة.
وتفيد المعطيات التي تتداول بين المهتمين بالجالية العربية في أوروبا كيفت تحركت دول عربية بتنسيق مع إسرائيل، على مستوى الخارجيات والاستخبارات منذ سنة 2017 لاستقطاب أكبر عدد من نشطاء عرب في أوروبا ومنهم نشطاء القضية الفلسطينية تمهيدا لاتفاقيات إبراهيم، وذلك لتجفيف منابع أي مقاومة مدنية وفكرية في الأوساط الأوروبية لعملية السلام «الإبراهيمية». وتتجلى هذه الاستراتيجية في أهمية الأوروبيين من أصل عربي الذين يتواجدون في الأحزاب والبرلمانات والمؤسسات الأوروبية. ويمكن تتبع كيف انهالت الدعوات والجوائز والهدايا على الكثير من النشطاء من طرف أنظمة عربية وخاصة خليجية في أفق امتصاص أي معارضة لهذه الأنظمة وأي معارضة لاتفاقيات سياسية لدول عربية مع إسرائيل.
ويمكن اعتبار المرحلة الممتدة من 2013 إلى نهاية 2020 بمثابة رحلة الصحراء في الربع الخالي، أي بقيت القضية الفلسطينية بدون بوصلة، حتى جاءت هذه المواجهة الحالية التي تحمل اسم «حرب أيار» أو «حرب مايو». وهكذا، بقدر ما كانت المفاجأة العسكرية للمقاومة بتجاوز القبة الحديدية وضرب العمق الإسرائيلي وفرض «الحجر العسكري» على الإسرائيليين في عدد من المدن، بقدر ما كانت التظاهرات بالعشرات في مختلف المدن الأوروبية وليس فقط العواصم الكبرى مثل لندن وبرلين وأمستردام وبروكسيل ومدريد بل حتى الصغرى منها. ومن ضمن الأمثلة، شهدت أكثر من 20 مدينة إسبانية تظاهرات تضامنية مع فلسطين.
ولم يسبق في تاريخ التضامن مع فلسطين في أوروبا، أن سجلت القارة العجوز هذا الكم الكبير بل والنوعي من التظاهرات ونسبة المشاركة. وهذا يعود إلى جيل جديد من الأوروبيين من أصل عربي لا تجمعهم أي علاقات بالأنظمة العربية ولم يتأثروا بالخلافات الإيديولوجية في نظرتهم إلى القضية الفلسطينية.

أمريكا اللاتينية

إذا كانت بعض الدول العربية سعت إلى التحكم في نشطاء القضية الفلسطينية في أوروبا، فقد شهدت منطقة أخرى من العالم تراجعا في دعم هذه القضية، ويتعلق الأمر بمنطقة أمريكا اللاتينية. ويعود هذا إلى تراجع اليسار ما بين سنتي 2015 إلى 2020 مقابل وصول اليمين إلى الحكم وخاصة ذلك المتعاطف مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وأطروحته المؤيدة لإسرائيل. وفي لحظة معينة، بقيت فنزويلا لوحدها رافعة مشعل الدفاع عن القضية الفلسطينية بعدما وصل اليمن إلى الحكم في كل من الأرجنتين والتشيلي وبوليفيا  والبرازيل وبعض دول أمريكا الوسطى.
وبعدما كانت دول المنطقة تدافع عن الحق الفلسطيني في مجلس الأمن، بدأت دول مثل بوليفيا بعد الانقلاب على إيفو موراليس ووصول بولسورانو إلى الحكم في البرازيل تهدد بنقل سفاراتها إلى القدس كما فعل ترامب. وحاولت إسرائيل ربط القضية الفلسطينية بكل من حماس وإيران، أي تلخيصها في «قالب إرهابي» للتقليل من التعاطف.
ومع بدء عودة اليسار إلى الحكم في المنطقة مثل الأرجنتين وبوليفيا والمكسيك لأول مرة واستعادة نشطاء المجتمع المدني لدورهم بعد تفاقم مآسي نيوليبرالية جرى تطبيقها في دول مثل كولومبيا والأرجنتين والبرازيل، انتعش الدعم مجددا للقضية الفلسطينية. وخلال الأسبوعين الأخيرين، كانت ساحات مدن أمريكا اللاتينية مسرحا لتظاهرات كثيرة مؤيدة لفلسطين. وتبرز مواقع البعثات الدبلوماسية الفلسطينية في أمريكا اللاتينية بالصور وأشرطة الفيديو حجم هذه التظاهرات.
ولعل المقياس في معرفة حجم التضامن وتفهم المواقف الفلسطينية، هو نسبة المقالات سواء التحليلية أو الرأي أو العناوين في صحف أمريكا اللاتينية بما فيها اليمينية التي كانت تنتقد إسرائيل لقتلها المدنيين. وكان قصف إسرائيل لمبنى الصحافة في غزة تأثيرا قويا على صعوبة الدفاع عن سياسة تل أبيب في المنطقة.

عودة فلسطين إلى الأجندة الدولية

لقد تفاجأت إسرائيل وعدد من خبراء الحروب بالقفزة النوعية التي حققتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة في فرض إيقاع جديد للمواجهة العسكرية. إذ تجاوزت القبة الحديدية المضادة للصواريخ، ونجحت في اختراق المجال الجوي الإسرائيلي بطائرات مسيرة، واستهدفت نقاطا حيوية وسط إسرائيل. وكانت المفاجأة الثانية هي العودة القوية للقضية الفلسطينية إلى الساحة الدولية، ولعل العلامة الفارقة هذه المرة أن التظاهرات التضامنية في أوروبا وأمريكا اللاتينية بل حتى في الولايات المتحدة مثل تظاهرتي شيكاغو ديترويت كانت أكثر عددا مقارنة مع تلك المسجلة في العالم العربي. وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ التضامن مع فلسطين. نعم، خسرت إسرائيل الرأي العام الدولي بعد «حرب أيار 2021».

Sign In

Reset Your Password