بصدد رواية “البطريرك الأخير” للكاتبة نجاة الهاشمي/عبد اللطيف البازي

الروائية نجاة الهاشمي

اسمها نجاة الهاشمي

نجاة الهاشمي اسم فرض نفسه منذ بضع سنوات  في المشهد الأدبي بكطالونيا على الخصوص وبإسبانيا عامة.  هي ابنة مدينة الناضور، انتقلت وعمرها ثمانية سنوات إلى بلدة صغيرة  مجاورة لبرشلونة اسمها بيك حيث كان يشتغل أبوها كعامل بناء.

أثارت نجاة الهاشمي الإنتباه بعملها الأول “أنا أيضا كطلانية”* ثم بروايتها “البطريرك الأخير”** التي نالت جائزة “رامون يول“، أهم الجوائز الأدبية بكطالونيا.  هي  شابة جريئة  حلمت بأن تنسج  جسرا من الكلمات بين ثقافتين ولغتين دون أن تتخلى عن دهشتها الأولى ودون أن تهادن مجتمعها الأول ومجتمعها الثاني. وقد حظي كتاباها   باستقبال نقدي وجماهيري استثنائي.هي  نموذج جذاب يستحق التأمل لأنه يجعلنا نراجع العديد من مسلماتنا حول الهوية وحول فكرة الانتماء.

هل تذكرون محمد شكري؟

تحكي  الساردة/ الشخصية الرئيسية في رواية “البطريرك الأخير” للكاتبة الإسبانية/الكطلانية/ ذات الأصول المغاربية نجاة الهاشمي  قصة  تشكل  شخصية أبيها المتسلط والمتعنت ذي النفسية المعقدة والذي استقبل عند ولادته بالزغاريد. وحينما اشتد عوده أصبح   تعنيف  النساء وغوايتهن في الوقت نفسه  هوايته المفضلة وانشغاله الأثير. وكان ما يحكم  علاقاته بزوجته وأسرته وعشيقاته ومحيطه هو حب التملك  والتوجس حتى أنه أعلن شكه في أبوته للساردة التي أرادت إقناعنا أن أباها ، وهو طفل، قد قتل خنقا أخاه الأصغر منه،  وعملت  على فضح  أنانيته وبعض تفاهاته، بل إنها تزعم أنها “اختارت” أن  تظل على قيد الحياة فقط لكي تواجهه ولكي تحكي لنا قصتها، و كأنها باختيارها ذاك  تصفي معه حسابا خاصا وتريد التخلص منه رمزيا. وبموقفها ذاك تسجل  نجاة الهاشمي انتماءها إلى سلسلة مبدعين مغاربة معروفين كمحمد شكري وإدريس الشرايبي وعبد الحق سرحان لم يخفوا “ضغينتهم” وأعلنوا الحرب، دونما مواربة، على صورة الأب العنيف والعدواني  وقرروا “قتله”.  وأخبرتنا  الساردة، بلغة  سلسلة وأنيقة،  كيف نسجت مع أبيها علاقة انجذاب ونفور، و كيف أنها سعت إلى  أن تكون شابة عادية لا تثير انتباه الآخرين متحدية ملامحها الغرائبية.  وحكت لنا أيضا كيف بدأت تشعر بنداءات الرغبة تراود جسدها وكيف اختارت أو اضطرت أن تختار اختراق الممنوعات. ومن سوء حظ الساردة  أن  علاقتها مع زوجها، بائع المخدرات، القادم هو الآخر من المغرب والذي فرضته على أسرتها، كانت  صيغة تكاد تكون مطابقة  لعلاقتها مع أبيها، إذ طالبها  بعد الزواج أن تكون أقل تحررا وأكثر خنوعا وانصياعا وأن تنسى أنها تعيش ببلد أوروبي. وفي النهاية قررت الإنتقام  بشكل رهيب من أبيها المتواطئ مع زوجها، وجعلته يشهد مشهدا ما كان بإمكانه تصوره حتى في أحلك الكوابيس، مشهد عمها وهو يأتيها من الخلف وعلامات   الاستمتاع بادية عليها.

جاذبية الكلمات

ومقابل العنف الجسدي والرمزي المهيمن في أغلب فصول الرواية وكذا طغيان الشعور بالخوف وانعدام الثقة بين الشخصيات، كانت الساردة تجد ضالتها في اكتشاف دلالات  الكلمات وسحرها، وكانت في لحظات الانقباض والتيه تلجأ إلى القاموس  لتصطاد تعابير جديدة وتتعرف على معانيها  وتحس حينذاك بالحرية وبشعور بالانطلاق  وكأنها تتملك العالم،  في حين شكل ذلك بالنسبة للقارئ ما يشبه اللازمة الموسيقية وجرعة هواء   تضع بينه وبين الوقائع بعض المسافة وتمكنه من تحمل  المرارة  و العنف الثاويين  بين السطور. وقد استثمرت  رواية “البطريرك الأخير”  كذلك بعض أساليب الحكايات الشعبية، وهي  تقدمت  نحو القراء بوصفها  رواية فطرية ، تهدف إلى أن تتواصل مع متلقيها و  تعرض التجارب كما تلقتها الشخصيات باندهاش وعفوية. وكون  الساردة  تنتمي في الآن نفسه إلى ثقافيتين وعقليتين مختلفتين جعلها أحيانا تشعر بأنها محظوظة وأنها ليست موزعة بقدر ما أنها  تنهل من معينين. وقد أضاءت نجاة الهاشمي في حوار معها هذه الفكرة كما يلي: ” إذا ما تحدثت عن تجربتي الخاصة، أقول إنها  تساعدني على استثمار عدد أكبر من العناصر مما لو كنت قد عشت في إطار ثقافي واحد، عناصر ألعب بها وتساعدني على عقد المقارنات وربط الصلات فتغتني كثيرا تجربتي  الأدبية. و بهذا المعنى، أشعر أنني أكثر حرية مما لو كنت أنتمي إلى تقليد ثقافي واحد” . (1)أما القارئ فإنها تتيح له  إمكانية أن  ينسب وينتقد ويستمتع بالتقابلات التي يجد نفسه إزاءها.

اختبار الهوية

لقد  وجدت الساردة  نفسها، وقد استقرت بكطالونيا، مطالبة بالتفاوض مع حقائق عنيدة وبتدبير أكثر من التباس، ومطالبة بأن تسائل تصورها عن ذاتها وهويتها. ونفس هذه الأفكار ونفس هذه الوضعية  نجدها  لدى نجاة الهاشمي التي اعتبرت الحوار المشار إليه أعلاه: “(…) أن تصورنا لهويتنا الشخصية ليس هو ما يطرح مشكلا. ما يجلب لك المتاعب هو كيف يراك الآخرون فتصبح محكوما ومقيدا بهذه الرؤية التي غالبا ما تكون تفقيرية ومختزلة و لا تستحضر كل العناصر المكونة لشخصيتك ” (2). هو اختبار الهوية  الذي نجتازه بيسر أحيانا وبتشنج كبير أحيانا أخرى.

ما يشبه الخلاصة

“البطريرك الأخير ” عمل جريء وسلس، يفاجئك ويمتعك.هو عمل قلق وعابر للمجتمعات،  و تكرس  بعض  شخصياته صورا تكاد تكون نمطية  ويقترح وقائع يسعد بها الجمهور الغربي، وبعض شرائح الجمهور العربي، لأنها تحيله على زمن ليس بزمنه وعلى غرائبية يحتاجها لتكسير رتابة تلف نهايات  أسابيعه.

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password