بريكست يحمل اهتماما بريطانيا خاصا بشمال افريقيا ضمن إعادة نشر لندن نفوذها

وقعت بريطانيا ومجلس أوروبا على اتفاقية “بريكست” التي بموجبها تغادر لندن الاتحاد الأوروبي بعد تواجد امتد منذ سنة 1973، وهذا الانسحاب يأتي بتخطيط من الإستبلشمنت البريطاني، اعتقادا منه في تحرر البلاد من البيروقراطية الأوروبية وإعادة الانتشار في الساحة الدولية. ومن ضمن المناطق التي سيمسها القرار، وإيجابا، منطقة شمال افريقيا أو المغرب العربي خاصة ثلاث دول وهي المغرب والجزائر وتونس علاوة على موريتانيا بينما ليبيا تجعلها لندن تقريبا ضمن الشرق الأوسط.

وهكذا، تتعدد الزوايا التي تعالج انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو القرار الذي اتخذ شرعيته عبر استفتاء أجري 23 حزيران/يونيو 2016. ويبقى بريكست من نوعية القرارات التي تشكل منعطفا في تاريخ الأمم، فهو يعكس رؤية استراتيجية ستمتد إلى عقود من الزمن مع التأثيرات التي ستحملها بسلبياتها وإيجابياتها. وكانت الكثير من الأصوات تحذّر من السقوط الاقتصادي لبريطانيا بعد بريكست مباشرة، وهذا لم يحدث ولن يحدث ولكن دون استبعاد أزمات مالية محدودة لن تخرج عن نطاق التحكم. وكل عملية من هذا النوع تحمل خسائر على المدى القصير لكنها ذات فوائد وأرباح جمة على المستوى المتوسط والبعيد.

وبريكست في العمق هو خريطة عمل بشأن إعادة انتشار بريطانيا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وثقافيا في العالم في محاولة منها البقاء ضمن الكبار في عالم يشهد تغيرات جوهرية بوصول قوى جديدة مثل الصين تنضم إلى الولايات المتحدة وروسيا وقوى ستبسط نفوذها الإقليمي مثل البرازيل وجنوب افريقيا. وهذه هي الرؤية التي تدافع عنها مثلا مؤسسات التفكير الاستراتيجي التي تعتمد عليها الدولة البريطانية في تشكيل أجندة المستقبل.

ومن ضمن المناطق التي تسعى بريطانيا إلى التركيز عليها مستقبلا، بعد بريكست، منطقة قريبة منها جغرافيا وتاريخيا ولكنها تراجعت في القرن العشرين وحتى يومنا هذا، وهي شمال افريقيا. ويتجلى هذا في وجود مؤشرات دالة للغاية، منها، الاهتمام المتزايد لمراكز التفكير الاستراتيجي البريطانية بتطور المنطقة، حيث بدأت الدراسات تتزايد حول العلاقات بين بريطانيا وهذه الدول بعدما كانت هامشية حتى الأمس القريب. ويضاف إلى هذا، سياسة بريطانيا من خلال خلق شبكات جديدة من الباحثين والطلبة الناطقين بالإنكليزية لمواجهة الهيمنة الفرنسية، إذ لا يمكن خلق نفوذ في العالم بمعزل عن نشر الثقافة. في الوقت ذاته، ارتفعت نسبة المؤتمرات الثنائية الخاصة برجال الأعمال بين بريطانيا وهذه الدول. وتخصص بريطانيا ومنذ خمس سنوات ميزانية متتالية لتحقيق هذه الأهداف.

ورغم الوجود الفرنسي الضخم في شمال افريقيا وخاصة في المغرب وتونس والجزائر، فقدت بدأت دول المنطقة تبحث عن شركاء جدد لتنويع علاقاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهو ما يفسر لماذا تتراجع فرنسا اقتصاديا في المنطقة، إذ لم تعد الشريك الرئيسي للجزائر حيث تتفوق عليها دول مثل الصين، ولم تعد الشريك التجاري الأول للمغرب، حيث احتلت اسبانيا هذا المركز منذ سنوات. وهذا التراجع الفرنسي يساهم في تسهيل الانتشار البريطاني في شمال افريقيا.

وعلى مستوى التأثير المستقبلي لعلاقات بريطانيا بشمال المغرب وبالأخص بدولة مثل المغرب، يعتبر هذا الأخير البلد الرابح مباشرة من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لأسباب اقتصادية وسياسية. في هذا الصدد، يعتبر المغرب دولة ذات زراعة تصديرية نحو الخارج وخاصة الاتحاد الأوروبي شريكه التجاري الأول. ويواجه المغرب مشاكل كثيرة بسبب القيود التي يفرضها الاتحاد، فرغم وجود 27 دولة مشكلة للاتحاد تبقى العلاقات الاقتصادية بين المغرب وهذا التكتل دون المستوى. وتبقى بريطانيا من أكبر الأسواق الأوروبية نظرا للقدرة الشرائية وحجم السكان والقرب الجغرافي.

ولعل الربح الملموس مباشرة بعد الإعلان عن بريكست هو ما يتجلى الآن في الملف السياسي. تعد بريطانيا من الدول الأكثر دفاعا عن تقرير المصير في نزاع الصحراء، ويتوجس المغرب كثيرا من مواقفها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وكان لها تأثير على الموقف الأمريكي للدفع عن تقرير المصير. وانتقل موقف بريطانيا من الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي. في هذا الصدد، تزعمت لندن معارضة اتفاقية الصيد البحري بين المغرب والاتحاد الأوروبي بسبب مياه الصحراء الغربية، وعارضت تصدير المغرب للمنتوجات الآتية من الصحراء، وشكلت تحالفا قويا مع دول مثل السويد والدنمرك وفنلندا ونسبيا هولندا يخلق متاعب دبلوماسية كبيرة للرباط. ولم تنجح دبلوماسية الرباط طيلة السنوات الأخيرة في إقناع بريطانيا بتبني الليونة. وبالتالي، يعد خروج بريطانيا من الاتحاد مكسبا للمغرب في نزاع الصحراء لأنه يضعف اللوبي المعارض لسياسته في الصحراء.

ويبقى التساؤل، هل الدبلوماسية المغربية ومعها الطبقة السياسية قادرة على تطوير العلاقات مع بريطانيا؟ علما أن هذا البلد كان وحتى أواخر القرن التاسع عشر هو الشريك الأوروبي الرئيسي للمغرب رفقة اسبانيا وليس فرنسا. إذ تبقى العلاقات السياسية دون المستوى رغم القرب الجغرافي والعلاقات التاريخية، ويكفي عدم قيام ولا رئيس حكومة بريطانية بزيارة المغرب بعد مارغريت ثاتشر. وحدثت هذه البرودة السياسية في عهد الملك محمد السادس بينما كانت العلاقات نشطة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي زار بريطانيا، كما قامت إليزابيث الثانية بزيارة المغرب.

وتبقى الجزائر ذات أهمية خاصة قد تتجاوز المغرب في الأجندة البريطانية ولا يفسر هذا فقط بحجم التبادل التجاري بين البلدين الذي يتجاوز الرباط-لندن. وهكذا، تراهن بريطانيا كثيرا على الجزائر وتعتبرها شريكا رئيسيا للمستقبل لسببين، وهما: نزعة الجزائر للابتعاد عن الهيمنة الفرنسية بسبب مآسي التاريخ المشترك إبان الاستعمار الفرنسي وتعثر الحوار السياسي. ويترجم هذا عبر البحث عن شركاء جدد سواء في الغرب مثل المانيا وبريطانيا أو في الشرق مثل الصين. وكان رئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون قد زار الجزائر سنة 2013 لدعم هذا التوجه، وكانت أول زيارة لرئيس حكومة بريطاني لهذا البلد.

وفي عامل ثان، تحظى الجزائر بأهمية خاصة كمصدر قريب للطاقة خاصة الغاز الذي تحول إلى مادة ثمينة وسلاح استراتيجي في يد الدول المنتجة له، ويكفي ما تعانيه دول أوروبا من توظيف روسيا للغاز في نزاعاتها السياسية، ويتزايد اهتمام بريطانيا بالطاقة الجزائرية بشكل متسارع. وفي المقام الثالث، أهمية السوق الجزائرية للاقتصاد البريطاني لأنها تعتبر من أهم الأسواق الافريقية إلى جانب المغرب ومصر وجنوب افريقيا والكاميرون ونيجيريا، ويبقى الإيجابي هو قربها الجغرافي.

وتدرك الجزائر أهمية بريطانيا، ولهذا فهي قد أقرت اللغة الإنكليزية بشكل موسع في المدارس بهدف تطوير التعاون مع بريطانيا والولايات المتحدة والعالم الأنكلوسكسوني عموما. ومما يساعد على تطور العلاقات هو غياب مشاكل تاريخية بين الطرفين بل تلتقي رؤيتهما في الكثير من القضايا الدولية.

ورغم صغر سوقها، تهتم لندن بتونس أشد الاهتمام، وقد ساعدت في دعم المؤسسات التونسية بعد الربيع العربي وتمول برامج خاصة لتعزيز العلاقات الثنائية خاصة عبر الطلبة ورجال الأعمال. ومن أهم ما تخطط له بريطانيا هو تعزيز وجود شركاتها المستثمرة في هذا البلد والرهان على فتح جامعات بريطانية فيه، أي تحويله إلى قلب الشراكة البريطانية-المغاربية.

كما يوجد اهتمام بتطوير العلاقات مع موريتانيا خاصة بعد افتتاح أول سفارة بريطانية في هذا البلد خلال سنة 2018 بعدما كان مقر السفارة البريطانية يوجد في مقر سفارة الاتحاد الأوروبي. وتراهن بريطانيا كثيرا على الاستثمار في الطاقة بعدما بدأت الدراسات توحي باحتمال وجود بترول وغاز في السواحل الموريتانية.

وكان هناك تفكير لدى وزارة الدفاع البريطانية منذ سنوات باحتمال إنشاء قاعدة عسكرية في المستقبل لتعزيز الحضور العسكري البحري في الواجهة الأطلسية، وهي فكرة كانت قد تضمنتها دراسات عسكرية بريطانية لكن يوجد تردد بسبب عدم استعداد موريتانيا والتخوف من إثارة قلق كل من اسبانيا القريبة بسبب جزر الكناري وفرنسا التي ترى في موريتانيا فضاء لنفوذها التاريخي.

وهكذا، يحمل بريكست إعادة انتشار وتعزيز النفوذ البريطاني دوليا في ظل التغيرات التي يشهدها العالم في القرن الواحد والعشرين، وتعد شمال افريقيا من المناطق التي تحظى بأهمية ما فوق المتوسط في أجندة لندن. ولهذا يرفع الوزير المكلف بالشرق الأوسط وشمال افريقيا ألستير بيرت من زيارته إلى دول المنطقة، وهو ما يثير حفيظة الفرنسيين والاسبان.

Sign In

Reset Your Password