حظيت مسرحية “النظام يريد” بإقبالٍ جماهيري غير مسبوق في الخرطوم، نظرا للفكرة السياسية الجريئة التي تناولتها وانتقادها لرموز النظام القائم في السودان. فما مضمون هذه المسرحية وأين موقع السودان في خارطة دول الربيع العربي؟
تسجل مسرحية “الشعب يريد …” وقائع الأيام الأخيرة لرئيس جمهورية ما، وسط حالة من الرعب مبعثها توارد أخبار عن خلع زملائه من الرؤساء. الطريف أن الرئيس يستضيف في قصره رئيساً مخلوعاً كثيراً ما حاول تحذيره من مغبة سياسته تجاه شعبه واستسلامه لتقارير معاونيه الملفقة والكاذبة.
مطلب تغيير الشعب
بعد ازدياد موجة خلع نظرائه من الرؤساء، يبتكر الرئيس فكرة يرى أنها يمكن أن تنقذ نظامه من مصير الأنظمة الأخرى التي أصبحت تتهاوى من حوله بوتيرة متصاعدة. مفاد الفكرة أن يقوم الرئيس بتغيير الشعب في محاولة منه لقلب مقولة “الشعب يريد تغيير النظام” إلى مقولة “النظام يريد تغيير الشعب” ظناً منه أن مثل هذه الفكرة يمكن أن تنسف مطالب الشعب من أساسها.
لتنفيذ فكرته، يستدعى الرئيس في الحال سمسار القصر للبحث على وجه السرعة عن شعب مطيع وراق و”يسمع الكلام” واستبداله بشعب البلاد. هناك أكثر من مسار وخيط درامي مشوق وجاذب. ولكن في أثناء الشروع في عمليات “شحن” الشعب في الحاويات والشاحنات توطئة لتسفيره خارج البلاد، في خضم هذه الموجة الهائجة واليائسة من الرئيس يثور الشعب ويسقط نظامه وتروح كل أفكاره هباء.
سؤال عصي على النسيان
مسرحية “النظام يريد” في الخرطوم حاولت الإجابة بطريقتها على سؤال ضرورة التغيير للأنظمة الشمولية على خلفية ثورات الربيع العربي. كما حاولت أن تجيب على سؤال تأخر التغيير السياسي في السودان، باعتباره من الدول التي قامت بثورتين خلعت على إثرهما أنظمة شمولية وديكتاتورية. الأولى كانت ثورة أكتوبر 1964 التي خلعت نظام الفريق إبراهيم عبود، والثانية انتفاضة أبريل عام 1985 التي سقط على أثرها الدكتاتور جعفر نميري.
على الرغم من أن مؤلف المسرحية مصطفى أحمد الخليفة له وجهة نظر أخرى فهو يرى أن أحداث مسرحيته لا علاقة لها بالواقع السياسي في السودان، ولكنها تتناول الرؤساء العرب الذين لم تصلهم ثورات الربيع بعد، إلاَّ أن أحد الذين شاهدوا المسرحية قال لـ DW عربية إن الجموع التي شاهدت المسرحية تدرك تماماً مطابقة شخصياتها لشخصيات بعينها في النظام السوداني. وأبدى سامر إبراهيم في حديثه لـ DW استغرابه من عدم استثمار الشعب النقد الذي وجهته المسرحية للنظام الحاكم، وقال إنه كان يتوقع أن تخرج هذه الجموع من العرض المسرحي للشارع مباشرة للانتفاض على نظام الحكم.
تنفيس الغضبة بالإضحاك
من جانب آخر يرى البعض أن المسرحية نفسها ساهمت في تنفيس غضبة الشعب من خلال الإضحاك والمواقف الكوميدية والمفارقات الكثيرة. ويدللون على هذا الزعم بأن السلطات كان من الممكن أن تقوم بإيقاف عرض المسرحية بسهولة تامة، مثلما تقوم بإيقاف الصحف السياسية ومنع الكتاب المعارضين من الكتابة، ولكنها سمحت بعرض المسرحية في أكبر مسارح العاصمة، في دلالة صارخة على رضا السلطات التام عن العرض ومنتجيه والقائمين عليه.
وقال الإعلامي الماحى تاج الدين لـ DW عربية أن من غير المنطقي أن تسمح السلطات بعرض هذه المسرحية التي تنتقد النظام الحاكم بصورة مريرة وفي نفس الوقت لا تسمح هذه السلطات بنشر آراء سياسية مخالفة لها وتحظر الرأي وحرية التعبير وتغلق دور الصحف وتوقف الكتاب المعارضين من الكتابة. ويرى تاج الدين أن هناك سببين لسماح السلطات بعرض المسرحية. الأول أن المسرحية ممكن أن تُسهم في تنفيس غضبة الناس وقد حدث هذا بالفعل، والسبب الثاني أن أغلب فريق المسرحية من منسوبي النظام الإسلامي الحاكم في الخرطوم.
الصادق المهدي يريد ..
الصيت القوى والحس النقدي العالي الذي أبرزه عرض مسرحية “النظام يريد” في وجه نظام حزب المؤتمر الوطني، دفع بالكثيرين من المعارضين لحضور العرض. من أشهر هؤلاء رئيس الحكومة التي أطاح بها انقلاب الرئيس عمر حسن البشير ورئيس حزب الأمة القومي المعارض الصادق المهدي في معية أفراد أسرته وبعض أصدقائه. بعد نهاية العرض أرسل المهدي رسالة إلى فريق العرض حصلت DW على نسخة منها.
قال المهدي في رسالته أن “للمسرحية معان ذات مدلولات سياسية واجتماعية صادقة التصوير للواقع ما جذب إليها التجاوب الشعبي المستحق، وفيها تأكيد صادق لحقيقتين: أن السلطة المطلقة إفساد مطلق وأن الظلم هدام”.
فيما لم تمض أيامٌ قليلة حتى حشدَ المهدئ أنصاره في ميدان الخليفة بأمدرمان بعشرات الآلاف في توجه جديد مناهض لسياسات الحكومة. البعض عدّ حشد المهدي تأثراً بالأجواء الثورية التي شهدها في المسرحية. فيما سخر آخرون من حشد المهدي ومن المسرحية معاً باعتبار أن السلطات لا تسمح بقيام إلاَّ ما تُريد، في إشارة إلى أن الحشد السياسي والمسرحية يحظيان برضا النظام التام!
ثورة .. على نارٍ هادئة
وفي خضم هذه المعمعة دافع نشطاء فاعلون عن ما أسموه مواصفات الثورة السودانية التي ليس من الضروري أن تكون على مقياس الربيع العربي، حسب رأيهم. ونفى بعضهم أن يكون التغيير قد تأخر في السودان. وفى السياق قال الناشط في العمل المدني النيل الخليفة لـ DW عربية إن “الشعب السوداني بما اكتسبه من خبرة سياسية طيلة عقود يظل ينظر ويراقب ما يحدث حوله وفى ذات الوقت يصنع مستقبله بترو مشوب بالخوف من الجديد”.
ويرى خليفة أن السودانيين جربوا طرائق مختلفة للتغيير معتمدين على إرث كبير في الاعتداد بالنفس. ويوضح خليفة أن الخبرة السياسية السودانية مرت بأشكال متقدمة ومختلفة منها التبادل السلمي للسلطة كما مرت عبر أعنف أساليب العنف والتنازع. وقال الناشط إن “كل ذلك خلَّف نوعا من الخبرة السياسية تشكلت من جماع الحرب والشتات ومن خبرة الوحدة والانفصال ومن نشدان السلام والحرية والعدالة”.
فيما أكد ناشطون في حركات التغيير الشبابية لـ DW أن “الثورة السودانية ليست في عجلةٍ من أمرها تقليداً لتجربة شعب من شعوب الربيع العربي، ولكنها تنضج على نارٍ هادئة حتى يحين أوانها”.