المغرب: كورونا فيروس منعطف شبيه بحرب تطوان وتداعياتها الخطيرة على انهيار الوطن/د. حسين مجدوبي

استسلام المغرب سنة 1860، وهي الاتفاقية التي كانت وبالا على البلاد وأدت الى الاستعمار

اعتادت بعض الأمم تحويل الأزمات الكبرى، التي تمر منها إلى منعطف تاريخي نحو النهوض والانطلاقة، واعتادت أخرى عدم استغلال الفرص، وهذا مرتبط بمدى وجود مؤسسات وسلطة، ذات وعي وطني عميق ورؤية استراتيجية ثاقبة. ويعد المغرب من الأمم التي فوتت تحويل الأزمات إلى فرص كبرى، لتحقيق النهضة. وتعد جائحة كورونا منعطفا، قد تقود إما نحو النهضة الموعودة التي طال انتظارها، وإما إلى تفاقم الانتكاسة، في سيناريو شبيه لما حدث مع أزمة أخرى تاريخية وهي حرب تطوان سنة 1860.

وشهد المغرب خلال 160 سنة الأخيرة محطات فارقة في تاريخه، نجملها في حرب تطوان سنة 1860، ومحاولة علماء إصدار أول دستور للبلاد سنة 1908، ثم سقوطه تحت الاستعمار سنة 1912، وتحقيق الاستقلال سنة 1956 ومحطة الربيع العربي سنة 2011 وأخيرا جائحة كورونا، بسبب التأثيرات الهائلة لانعكاساتها على الوضع الاقتصادي العالمي، وما قد يترتب عنها من تغييرات في العلاقات الدولية والداخلية للأمم. وهكذا، شكلت الحرب الشهيرة المعروفة بحرب تطوان بين إسبانيا والمغرب في شمال البلاد، حدثا فارقا في تاريخ المغرب، فقد كشفت الدول الأوروبية ضعفه العسكري، بعدما كان يعتبر مهاب الجانب، ولهذا لم تجرأ فرنسا على استعماره، رغم هزيمته في معركة إيسلي سنة 1844، علاوة على توازنات دولية وقتها، ومنها معارضة بريطانيا استعمار أي دولة أوروبية المغرب بسبب حساسية مضيق جبل طارق. وفرضت إسبانيا المنتصرة، على المغرب غرامات مالية ضخمة، استغرق سنوات لتأديتها، ما أدى إلى سقوطه في براثن المديونية الخارجية، ونتج عن ذلك تفكك بنياته التقليدية، إلى غاية سقوطه تحت الاستعمار سنة 1912، وعاد الماريشال ليوطي المقيم العام، لكي يبعث الروح في هذه المؤسسات التقليدية خدمة للمشروع الاستعماري.

ولا يمكن فهم تطورات تاريخ المغرب خلال القرن ونصف القرن الأخير، بدون العودة إلى الانعكاسات الخطيرة لهذه الحرب، وكيف تناسلت الأزمات الواحدة تلو الأخرى، بدون فهم الأزمة الأم. بقي المغرب على هامش النهضة الأوروبية، رغم قربه الجغرافي. وخلال هذه الحرب اصطدم بقوة الحداثة، وقف على قوة الجيش الإسباني بفضل تجهيزاته المتطورة بمقاييس تلك الحقبة، واكتشف التلغراف، ودخلت المطبعة لأول مرة إلى المغرب عبر سبتة المحتلة، أي 400 سنة على اختراعها، ووقف على مفهوم تنظيم تطوان كبلدية، واطلع على الحياة السياسية الإسبانية، من أحزاب وانتخابات، وعلى المفهوم الحقيقي للنهضة الأوروبية. وإدراكا منهم بسر تقدم الآخر، نادى بعض النبهاء بالأخذ بالتقدم الأوروبي، لكن السلطان محمد الرابع وحاشيته، ومن رجال الدين وقتها، اعتبروا كل تطور مقبل من الضفة الشمالية لمضيق جبل طارق «رجس من عمل الشيطان»، يجب اجتنابه بما في ذلك تحريم استعمال المطبعة.

كان اللقاء العنيف بمفاهيم الحداثة الغربية، وفضاؤه شمال البلاد، بحكم القرب الجغرافي من أوروبا وإقامة القناصلة في طنجة، هو الذي أعطى أول وثيقة دستورية سنة 1908، التي رفضها السلطان عبد العزيز. ومن أبرز بنودها الرابع عشر القائم على جوهر النهضة الأوروبية، وهو الحرية الفردية، ويقول «إن الحرية الشخصية تقوم بأن يعمل كل واحد ما يشاء، ويكتب ما يشاء، مع مراعاة الآداب العمومية»، حلم لم نحققه بعد. وشكلت السلطة التقليدية للمخزن، بين حرب تطوان وسنة 1908، الإرهاصات الأولى التي كانت ستقود إلى ظهور نخبة واعية تهدف إلى الإصلاح، وتدفع المغرب نحو الرقي. لم تأخذ السلطة بأسباب الإصلاح والانفتاح وانتصرت منظومة التقاليد البالية، المسلحة بتأويل ديني على مقاس الحاكم. وخرج المغرب من تلك الأزمة أكثر هشاشة، فسقط في يد الاستعمار واقتطعت أراض من الوطن، مازال يعيش تبعياتها منذ ذلك التاريخ حتى اليوم. وتمكنت السلطات التي توالت على الحكم، من تحويل الأزمات الكبرى إلى فرص تاريخية، ومما ساعدها في ذلك ضعف النخبة المغربية، بسبب محدودية التعليم. ولعل أكبر نكبة سياسية وفكرية عاشها المغرب، خلال القرن الأخير، هي مأساة مشاركة فئة عملاء الاستعمار في دواليب السلطة، بعد استقلال البلاد عن الاستعمارين الإسباني والفرنسي سنتي 1956. وأصبح رواد الحركة الوطنية مثل، علال الفاسي والمهدي بنبركة ومحمد بن عبد الكريم الخطابي مهمشين ومنفيين، بل تعرض البعض منهم للاغتيال.

إن عدم أخذ المغرب بأسباب الإصلاح الحقيقي هو الذي جعل الشرخ بينه وبين جيرانه شمال مضيق جبل طارق يتفاقم، سياسيا وفكريا واقتصاديا. فقد كان دخل المواطن الإسباني أربع مرات أكثر من المغربي سنة 1975، وأصبح الآن 11 مرة. وتتقدم إسبانيا على المغرب في سلم التنمية البشرية بقرابة مئة مركز. فقد اعتمدت إسبانيا الديمقراطية الحقة والشفافية الحقيقية، واعتمد المغرب خطاب الوهم الديمقراطي واكتفى بالشعارات الزائفة. ويعد فيروس كورونا جائحة حقيقية على دول العالم، وإن كان بمستويات مختلفة من بلد إلى آخر. لقد أيقظ المغرب على واقع مرّ، هشاشة مختلف القطاعات التي تسمو بها الأمم وهي الصحة والتعليم، ثم اعتراف وزير المالية محمد بنشعبون بوجود أكثر من خمسة ملايين عائلة فقيرة محتاجة للمساعدات، ما يشكل أكثر من ثلث الشعب. وبعيدا عن التشاؤم، صورة المستقبل غير مطمئنة، بكل ما للكلمة من دلالة عميقة، لثلاثة أسباب رئيسية وهي:

*أولا، المديونية الخانقة التي تصل إلى قرابة 100% من الناتج القومي الخام للبلاد، ما ستمنع القيام بإصلاحات اقتصادية كبرى، لاسيما في ظل تضرر قطاعات بشكل مرعب مثل السياحة بالدرجة الأولى، الذي سيتطلب سنوات لكي ينتعش. وهذا سيدفع الدولة إلى مزيد من التقشف، مع مراعاة بعض المساعدات الاجتماعية، لتجنب الاحتجاجات التي قد تكون عنيفة. وهذا الوضع سيزيد من تحطيم الطبقة المتوسطة، وتفاقم الشرخ الطبقي وسط المجتمع المغربي.
*
ثانيا، وفي ارتباط بالنقطة السابقة، عودة مفهوم الدولة الوطنية أو القطرية، بشكل لافت بعد الجائحة، حيث سيصبح عدد من الدول يعتمد على الإنتاج الوطني لتحقيق الاكتفاء الذاتي في عدد من المجالات. وهذا سيجر إلى تراجع الصادرات وضعف الاستثمارات الأجنبية. فنحن أمام نهاية العولمة بمفهومها الكلاسيكي، الذي ساد خلال الثلاثة عقود الأخيرة، وننتقل إلى المفهوم القطري مع عولمة محدودة وانتقائية، أي تكميلية للاقتصاد الوطني. وعندما تحدث التغيرات الدولية الكبرى، تنجح أمم في ركوب قطار التطور والتأقلم، وتبقى أخرى على الرصيف تنتظر قطارا قد يأتي أو لا يأتي.

*ثالثا، غياب طبقة حاكمة واعية بدورها التاريخي والوطني. فقد وصف المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي منذ أربع سنوات النخبة الحاكمة قائلا، «النخبة الحاكمة جاهلة وأقل وطنية من التي سبقتها». وهذا يعني سيادة مفهوم للوطنية غير قائم على الأسس الجيوسياسية، التي تعطي للبلاد مناعة، بل قائم على تصورات سطحية تركز على المظاهر الاستعراضية للتقدم مثل، الفخر بإنشاء قطار سريع، وتنظيم أكبر مهرجان غنائي في افريقيا، والمزج بين أجندة الاغتناء الشخصي مع المشاريع المسطرة باسم الدولة، وتطبيق أعلى مستويات الليبرالية المتوحشة في مجتمع هش. وهذا يؤدي إلى الوهم بالنجاح، وهو أسوأ فخ تقع فيه الطبقة الحاكمة. هذه الأخيرة، تأخذ بالمظاهر، ولكنها ترفض الحقائق العلمية وهو أن تقدم بلد يقاس بمعايير مختلفة يتفق عليها العالم وهي: مستوى التعليم ومستوى الصحة ومستوى الدخل الفردي ومستوى الإنتاج لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وينضاف إليها كمكمل أساسي مستوى الحرية. وتعد جائحة فيروس كورونا منعطفا، قد تقود إما نحو النهضة الموعودة التي طال انتظارها، وإما إلى تفاقم التدهور. لقد حان الوقت ليجعل المغرب من فيروس كورونا منعطفا نحو التقدم حتى لا يكون بطلا في تضييع الفرص التاريخية، ويبقى الإشكال أن جزء من النخبة التي في السلطة فاسدة أوصلت المغرب الى الحضيض، ولا يمكنها قيادة أو المشاركة في القفزة النوعية التي ينتظرها الوطن.

Sign In

Reset Your Password