لايغادر «الاستقلال» المغربي الحكومة، أي حكومة إلا وفي أذهان قيادييه أنه سيعود إليها في ظروف مغايرة. ولدى اختياره مناهضة حكومة عبد الإله بن كيران، من موقع الاصطفاف، رفقة حليفه السابق الاتحاد الاشتراكي في المعارضة، يبدو أقل استعجالاً لإطاحتها. فقد كان في وسعه أن يشكل جبهة عريضة من فصائل المعارضة ويطلب سحب الثقة من الحكومة، قبل أن تستيقظ من غفوة الصدمة، لكنه لم يفعل.
إنه وحلفاء محتملين في المعارضة، يعرفون أن إسقاط الحكومة عبر صناديق الاقتراع، أفضل من تضييق الخناق عليها أكثر، ودفعها إلى الاستقالة، لأن ذلك سيفرض إجراء انتخابات مبكرة، وما دامت فصائل المعارضة تراهن على تآكل شعبية ونفوذ «العدالة والتنمية» الذي يقود الحكومة، يصبح انتظار تأثير الزمن السياسي الذي لم يعد يميل إلى ترجيح حكومات ما بعد الربيع العربي في المغرب وغيره، أجدى من الدخول مع حكومة بن كيران في مواجهة مفتوحة. فهي ستكون مضطرة للتحالف مع خصم حزبي كانت دخلت معه في صراع لم يستثن لغة الضرب تحت الحزام. وأسهل على «العدالة والتنمية» أن يقنع مناصريه بضرورات هذا التحالف، على أن يسلم المفاتيح ويغادر السلطة التنفيذية.
بسبب الرهان على عامل الزمن، يؤثر الخصوم السياسيون الإبقاء على الوضع الراهن. وبينما يرى عبدالإله بن كيران أن في إمكانه استخلاص تفويض من المجلس الوطني لحزبه، يعزز وضعه في القفز على الأزمة الراهنة، وإن تطلب الأمر بدء مشاورات مع تجمع الأحرار الذي يقوده وزير المال السابق صلاح الدين مزوار الذي كان تعرض لانتقادات شديدة من صقور «العدالة والتنمية»، فإن خصومه في المعارضة يتحينون الفرصة للإيقاع به في مطب التناقضات، على أساس استخدام التحالف المحتمل ورقة ضغط لا تخلو من تناقض. ويبدو في غضون ذلك أن لا احد يرغب في إجراء انتخابات مبكرة، إلى حين إنضاج ظروف المواجهة. وأقربها بالنسبة الى المعارضة على الأقل إبعاد شبح الربيع العربي الذي حمل إسلاميي المغرب، مثل غيرهم إلى واجهة المسؤولية، وفي أقل تقدير الإفادة من نكساته.
الحساب ذاته لا يغيب عن «العدالة والتنمية» وبالمقدار الذي انتشى بتداعيات ربيع حمله إلى صدارة المشهد الحزبي ورئاسة الحكومة، بالقدر الذي لا يستبعد التداعيات السلبية التي يمكن أن تؤثر على صورته، لذلك لن يمانع في إبداء الانفتاح على خصوم الأمس. كي لا يقال أنه يرغب في الاستحواذ والتحكم بمفاصل الدولة وممارسة الإقصاء. لكنه مكره على ذلك بقوة حيازة غالبية تؤهل حكومته للاستمرار. ولو لم يكن في وارد السقوط المدوي في حال لم يسعفه حليف جديد لما تبادر إلى الذهن إمكان الالتفات إلى خصم سياسي كان يعتبره في عداد مفقودي الطريق.
للأزمة الحكومية في المغرب أكثر من أثر. أقربه أن حلها ينحو في اتجاه استخدام المرجعية الدستورية بدل النزول إلى الشارع. فالاحتجاجات التي ترفع في وجه الحكومة تتخذ غالباً طابعاً اقتصادياً واجتماعياً. ولم يدعُ أي فصيل في المعارضة إلى إسقاطها عبر حركة تمرد أو احتجاج، وهذه ميزة تدفع نخب الأحزاب وفاعليات المجتمع إلى التعود على المنهجية الدستورية. وما من شك في أن الأزمة الراهنة التي أسالت مداداً حول مجالات اللجوء إلى التحكيم الملكي، ستفسح في المجال أمام اجتهادات، قبل أن تؤول إلى إمكان تولي الحزب الذي يأتي في الرتبة الثانية تشكيل الحكومة، في حال عجز الحزب الذي في الصدارة عن الاستمرار وتأمين الغالبية، لكن هذا مجرد افتراض.
أما الجانب الثاني فيميل إلى التأني وضبط النفس. كي لا تبدو الأزمة وكأنها للانقلاب على شرعية صناديق الاقتراع. وعلى رغم أن بوادرها ظهرت منذ الشهور الأولى لتولي «العدالة والتنمية» مسؤولية قيادة الحكومة حين عاب عليه شركاؤه في الائتلاف الحكومي الانفراد باتخاذ القرارات، ثم تطورت المسألة إلى حرب مذكرات وبيانات قبل صدور قرار استقالة وزراء «الاستقلال»، فإن العودة إلى صناديق الاقتراع مستبعدة حالياً، من جهة لأن ما من حزب أو تكتل يستطيع حيازة غالبية مريحة، تجعله في غنى عن أي تحالفات، وبالتالي فالعوامل التي أنتجت الأزمة الراهنة في إمكانها أن تعاود إنتاج تطورات شبيهة. ومن جهة أخرى لأن حكومة لم تقرر بعد في موعد استحقاقات البلديات التي كان يفترض أن تجري العام الماضي، يصعب عليها الدعوة لاشتراعيات مبكرة.
بين هذا وذاك لا بديل أمام رئيس الحكومة غير مد اليد لبعض خصوم الأمس، وإن كان يعرف أنهم سيقابلون خطوته بمد الأرجل أكثر. فهو يستطيع في حال استصدار موقف داعم له من المجلس الوطني (برلمان حزبه) أن يظهر بقوة القفز على المطبات. فيما أن خلخلة البناء الحكومي قد تفسح المجال أمام وجوه وأسماء من داخل حزبه. فبالأحرى بالنسبة لكافة شركائه في الائتلاف الحكومي. وهذه من بين معطيات مشجعة، في انتظار مواجهة أكبر لم يحن أوانها بعد