إضراب رجال الشرطة في الجزائر قضى على آخر المقدسات وحطم آخر التابوهات/توفيق رباحي

إضراب الشرطة

سيحفظ التاريخ أن أول حركة احتجاجية علنية صاخبة في صفوف الشرطة الجزائرية حدثت في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وسيحفظ أنها حدثت في عهد الرجل الذي قيل إنه أقوى مَن أمسكوا بهذا الجهاز في السنوات الثلاثين الأخيرة، اللواء عبد الغني هامل. وسيحفظ أن المحتجين احتقروا كل رموز وعناوين الدولة والحكم وساروا نحو قصر الرئاسة الذي، إلى وقت قريب، وقفوا سداً منيعا في وجه أيٍّ كان سوّلت له نفسه التفكير في التوجه نحوه.
احتجاجات رجال الشرطة الجزائرية على امتداد أربعة أيام الأسبوع الماضي شكلت علامة فارقة في أسلوب إدارة الحكم سياسيا، ومنتهى طرق التعبير عن فشل نظام بوتفليقة.
كيف وصلت الجزائر إلى هذا المستنقع المخيف؟
لحظة الغضب كانت في مدينة غرداية (600 كلم جنوب العاصمة). هناك عنف اجتماعي يأخذ بعض المناحي المذهبية ويستمر منذ قرابة سنة. 
السلطات، وفاءً منها لفشلها المتجذر، أرسلت قوات من الشرطة من 28 ولاية وقوات من سلك الدرك عجزت كلها عن معالجة الوضع، ليس لأنها لم تستطع بل لغياب إرادة سياسية وشجاعة حكومية في وضع حد لما يحدث بالمدينة.
مرت الشهور بحرِّها وقرّها، ورجال الشرطة في غرداية يذوقون كل أنواع المعاناة والإهانات ويواجهون جزءا من عنف لا يرحم.
غرداية كانت النقطة التي أفاضت الكأس. قبلها، يروي الجزائريون قصصا وحكايات عن رجال شرطة عوقبوا، كأن حُوِّلوا إلى مناطق نائية، لأتفه الاسباب، ويرددون أن ستة آلاف شرطي فُصلوا من الخدمة منذ تولي المدير العام الحالي منصبه في 2010 (معدل أكثر من 4 في اليوم) وشروعه في إدارة هذا الجهاز الضخم بأسلوب ناظر المدرسة.
قبل غرداية، لم يمر أسبوع واحد طيلة السنوات العشر الأخيرة، من دون احتجاجات شعبية واجتماعية، في الجزائر من غربها الى أقصى شرقها ومن شمالها إلى أبعد نقطة في جنوبها: من تكررت عليهم الانقطاعات الكهربائية، خرجوا للشارع وأحرقوا الإطارات المطاطية. الباحثون عن وظائف دائمو الاعتصام أمام ما تبقى من مؤسسات الدولة. المطالبون بزيادات في الأجور دائمو الاحتجاج والتظاهر. المفصولون من العمل كذلك. أطباء، اساتذة تعليم، طلاب جامعات، حتى علماء المراكز النووية والأبحاث الفيزيائية كان لهم نصيب في الحركة الاحتجاجية المفتوحة.
القاسم المشترك في هذه الاحتجاجات أن أصحابها يجدون مُحاوراً واحداً دائم الحضور أمامهم: رجال شرطة التدخل، هم الدروع بين حكم فاشل ومجتمع يغلي. أما أسلوب الحوار، فواحد: العصي وخراطيم المياه.
لا أحد من المسؤولين يحاور، لا أحد يتفاوض، لا أحد يمتلك شجاعة اتخاذ قرار جريء وحل مشكلة عالقة. لهذا السبب يحتج جزائريون اليوم على مشاكل ومطالب عمرها عشر سنوات وعشرين.
ثم بلغ هذا العجز ذروته مع احتجاجات الشرطة الأسبوع الماضي. لم يجدوا مُحاورا فخرجوا للشارع. فقدوا ثقتهم في الجميع فتوجهوا نحو أعلى هرم في السلطة.
هنا أيضا برز العجز مرة أخرى في أفضل صوره: رئيس الوزراء عبد المالك سلال لم يتخذ قرارا واحدا صريحا بشأن مطالب المحتجين. لم يفعل لأنه لا يستطيع ولا يجرؤ، فالقضية معقدة بحيث قد يتوقف عليها مصير النظام ككل. وفي نهاية المطاف، لا يستطيع لأنه يجب أن يعود للرئيس. 
كل ما أعلنه سلال أن اشاد برجال الشرطة «الشباب أولادنا وخواتنا»، ورتب على أكتافهم وقال فيهم كلاما جميلا. لم يقدم جوابا لأنه لم يتخذ قراراً: لا يستطيع عزل المدير العام للشرطة (المطلب الرئيسي للمحتجين)، لأنه قرار سياسي أكبر منه. لا يستطيع الموافقة على مطلب إنشاء نقابة للشرطة لأنه، في ذات الوقت، منذ سنوات يواظب على منع جزائريين آخرين من إنشاء نقاباتهم. لا يستطيع الموافقة على زيادات في الرواتب والمنح لأنها قضية ميزانية وخزينة. لا يستطيع الوعد بأنه سيضع حداً لتعسف قادة الشرطة في حق مرؤوسيهم لأن التعسف جزء من ثقافة تصونها حكومته ونظام حكمه. لا يستطيع معالجة تفاصيل تتعلق بظروف العمل لأنها من صلاحيات مدير عام يدين بالولاء فقط لرئيس الدولة، ابن بلدته، الذي عينه.
لهذا أعلن (سلال) عن إحالة الموضوع لاجتماع وزاري مشترك ينظر في ما حدث ولماذا حدث.
الذي احتكر سلطة اتخاذ القرارات هو الرئيس بوتفليقة. زرع الذعر والديكتاتورية من حوله فحصدت الجزائر الفراغ. كل شيء يسبِّح باسمه والجميع في انتظاره، بينما هو مريض متوار عن الأنظار. بل ليس غريبا أن يكون المحيطون به أخفوا عنه الحدث تماما.
إضراب رجال الشرطة قضى على آخر المقدسات، وحطم آخر التابوهات. لم تبق حرمة لأحد أو شيء بعد اليوم. ستبقى صورهم يسيرون في الشوارع والطرق السيارة وصمة عار في جبين فترة حكم بوتفليقة. لن تخفف منها المزاعم عن استغلال دوائر في الحكم سخط رجال الشرطة في إثارة الحركة الاحتجاجية لحرق اسم هامل الذي قيل إنه طُرح كبديل محتمل لبوتفليقة إذا ما غيّبه الموت بغتة.
صحَّت هذه المزاعم هي وصمة عار إذ لا يعقل أن يصل الأمر حد التلاعب بجهاز حساس كان يجب أن يبقى فوق الجميع. لم تصح هي وصمة عار إذ لا يعقل أن يُترك هذا الجهاز يغلي إلى درجة الانفجار.

 

توفيق رباحي: كاتب من الجزائر يعمل في الجزيرة

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password