إذا كان من وصف يليق بالدبلوماسيتين الجزائرية والمغربية، فهو: المكر للأولى والتهور للثانية/توفيق رباحي

الملك محمد السادس رفقة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة

نشر الصحفي توفيق رباحي مقال رأي في جريدة القدس العربي، ورباحي صحفي من الجزائر وعليم بالعلاقات المغربية-الجزائرية، وأشرف لسنوات طويلة على الصفحة السابعة في جريدة القدس العربي، وهي الصفحة المخصصة للمغربي العربي وجنوب أوروبا. وتميز رباحي بنقذه اللاذع للسلطات الجزائرية، وفي الوقت ذاته، للسلطات المغربية. وكانت مقالاته تعرضه للنقد الى مستوى السب والقذف سواء في المغرب أو في الجزائر.

ونشر اليوم مقالا يستحق القراءة حول الأزمة الحالية بين المغرب والجزائر، إذ لا يستثني لا بلاده الجزائر ولا المغرب الذي يزوره باستمرار من نقد لاذع.

نص المقال

لا يجب الوقوف طويلا عند أسباب التوتر الحالي بين نظامي حكم البلدين، فهي أزمة عابرة ليست الأولى وحتما لن تكون الأخيرة. والأسباب دائما تتشابه: تصريح حكومي من هنا أو بيان رسمي من هناك، فرد فعل فأزمة أخرى لا تمنع بالضرورة برقيات التهاني بين رأسي البلدين لبعضهما عندما تحين الفرصة.
ما يجب الوقوف عنده هو أن الدبلوماسية المغربية هي البادئة دائما برد الفعل. والدبلوماسية الجزائرية دائما في موقف الطرف الذي يتصرف بهدوء وكأن شيئا لم يكن.

لاحظ أن رد الفعل المغربي دائما أقوى من الفعل ويغطي عليه!
الدبلوماسية مثل كرة القدم، الفريق الذي يختار الدفاع يتعب في مبارياته وينهيها بشق الأنفس، منهكا، وفي أكثر الأحيان منهزما.
ما من شك أن الدبلوماسية المغربية أبانت عن ارتباك كبير كلما تعلق الأمر بإدارة أزمة مع الجزائر، فتتسرع في اتخاذ القرارات وإبداء المواقف ثم ينتهي بها المطاف في حرج.

أستطيع هنا أن أسوق عدة امثلة، أبرزها أزمة صيف 1994 عندما استـُهدف فندق سياحي في مراكش بتفجير إرهابي راح ضحيته سياح إسبان. قال المغربآنذاك أن الجناة جزائريون، وبدل أن يسأل عن تعاون الجزائر في التحقيق في التفجير (خصوصا والأخيرة كانت تشكو من استفحال الإرهاب في أرضها وتتهم الآخرين بعدم مساعدتها)، بدل ذلك أسرع الملك الراحل الحسن الثاني وساعده الايمن آنذاك الراحل إدريس البصري، إلى إعلان فرض تأشيرة دخول على الجزائريين بالأصل وبالجنسية، أي كل من تـُشتم فيه رائحة الجزائر. فما كان على المسؤولين الجزائريين إلا أن ردوا بالمثل مع ‘حبة مسك’ فوق الحساب وهي غلق الحدود البرية بين البلدين.. وكأنها رسالة للمغاربة: سنريحكم منا تماما.
منذ ذلك التاريخ، ظل المسؤولون الجزائريون يردون بثقة كلما سئلوا في الموضوع: لم نكن نحن، بل المغرب هو البادئ!

قبل ثلاث سنوات أعلن المغرب بشكل منفرد عن رفع العمل بتأشيرة الدخول ذاتها التي كان فرضها في 1994، فردت الجزائر بثقة ومكر: لن نطبق مبدا المعاملة بالمثل لأننا نرفض أن يضعنا أحد أمام الأمر الواقع، وأن رفع التأشيرات كان يجب أن يخضع لتشاور ثنائي.

وعليه، تحوّل ما كان سيبدو من المغرب قرارا شجاعا ومبادرة حسن نية، إلى تصرف غير حكيم، منفرد ومتسرع بلا داع.
في الأزمة الأخيرة ـ الحالية ـ بين البلدين، سارع المغرب الى استدعاء سفيره إلى الرباط بغرض التشاور، بعد خطاب من بوتفليقة لمؤتمر مغمور في أبوجا (نيجيريا) اعتبرته الرباط عدائيا.
مرة أخرى استغلت الجزائر القرار لتبدأ وسائل إعلامها ضخ فكرة أن الجزائر لن تسحب سفيرها، رغم علم الجميع المسبق بالفرق الواضح ـ دبلوماسيا ـ بين سحب السفراء واستدعائهم للتشاور. رغم ذلك ‘اشتغلت’ الجزائر على الموضوع جيدا،

ومرة أخرى بدا المغرب هو ‘البادئ’.
ثم اختار المغرب التصعيد فأطلق المئات من مواطنيه حاصروا السفارة الجزائرية بالرباط واقتحموا قنصليتها بالدار البيضاء، بل تسلق أحدهم مبناها ونزع العلم ومزقه على رؤوس الاشهاد.
طبعا لا أحد سيصدّق أن ذلك الحصار كان عفوياً، وأن ذلك التصرف الأرعن فعل معزول. كل ما جنته الرباط من تلك ‘الحماقة’ هو تثبيت صفة التهور ودبلوماسية الهواة التي تلازمها كلما تعلق الأمر بأزمة مع الجزائر.

تعاني الرباط كل هذا التخبط مع الدبلوماسية الجزائرية والأخيرة تعيش أتعس أيامها وأكثرها تراجعا منذ الاستقلال. الجزائر اليوم، مثل المغرب، بلد جانبي، دبلوماسيا، يعيش على هامش حركة الشعوب والمجتمعات: لا أحد يذكر متى استقبلت الرئيس الفلسطيني محمود عباس آخر مرة، ولا أحد يذكر لها موقفا من أزمة العراق في العقد الماضي، ولا من يذكر لها موقفا مؤثرا مما يجري فيسوريا وقبلها ليبيا ومصر. ولا تأثير يـُذكر في السياسات الدولية إقليميا وعالميا. الرئيس بوتفليقة، الذي زار باريس خمس أو ست مرات، واستقبل رؤساء فرنسا ثلاث مرات، وزار دول العالم من بريتوريا إلى مانيلا، بوتفليقة لم يكلف نفسه عناء التفكير في زيارة مالي أو النيجر أو أيّ من دول الساحل، الحديقة الخلفية لبلاده، ومصدر كل قلاقلها.

هو كذلك حال المغرب الذي انكفأ على نفسه أكثر منذ ورث الملك محمد السادس عرش والده الراحل. باستثناء محاولات محتشمة للحضور في موريتانياوالسنغال، لم تعد البلاد تـُذكر إلا كمنتجع صحي لشيوخ دول خليجية يقضون فيه فترات نقاهة بعد علاج وجراحات معقدة في أمريكا وأوروبا.
كما يتساوى المغرب والجزائر في زيارات وزراء الخارجية الأمريكيين والأوروبيين عندما يقررون أخذ المنطقة بالجملة، فيبدأونها من الرياض إلى الرباط مرورا بما بينهما من عواصم (محطات) ثلاث أو أربع ساعات في كلّ منها.
عندما يقال في المغرب أن السياسة الخارجية في الجزائر في قبضة العسكر، هناك محاولة واضحة لتناسي أن السياسة الخارجية المغربية، مثل الجزائر تقريبا، في يد القصر الملكي أو حكومة ظل من 3 أو 4 أشخاص يديرونها بعيدا عن وزارة الخارجية ومن فيها. لذلك لا يجب استغراب مقولة أن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، عندما زارت الرباط، استـُقبلت في القصر من طرف حكومة الظل أولاً، بينما الوزير (السابق) سعد الدين العثماني ‘نائم في العسل’ في مكتبه بوزارة الخارجية.

وعندما يقال في صالونات السياسة ووسائل الإعلام الجزائرية أن المغرب يفتعل الأزمات مع الجزائر للهروب من مشاكل داخلية، هناك محاولة واضحة لتناسي أن نظام الحكم الجزائري مأزوم وينتظر بشوق أزمات مع المغرب عساه يوقظ بها همم المشاعر القومية لدى الرأي العام ويثبت للناس أن ‘فحولته’ ما تزال صالحة.
لا الجزائر جنّـة حقوق إنسان حتى يرف قلب بوتفليقة لحالها في العيون وباقي مدن الصحراء الغربية، ولا المغرب واحة ديمقراطية حتى يعـّير جارته الشرقية بالدكتاتورية وحكم العسكر.
هنا نظام حكم هجين مكوّناته خليط من أصحاب المصالح والقابضين على الأجهزة الإدارية والأمنية، يستعمل المدنيين ديكورا سياسيا. وهناك ‘مخزن’ يستعمل الآخرين (هذه المرة دور الإسلاميين) واجهة حكم تحقق مآربه وتضلل الرأي العام الدولي.
لا فرق أبدا يستحق الذكر إلا من حيث كون الجزائر بارعة في حفر المطبات الدبلوماسية لجارها، والمغرب بارع في السقوط فيها باستمرار وكأنه يرفض التعلم.

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password