«ملف سكريبال» يدشن الجزء الثاني من الحرب الباردة

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلادمير بوتين

«ملف سكريبال» قد يصلح لعنوان فيلم سياسي – بوليسي مشوق منسوج من الخيال، لكنه اسم الملف الذي فجر رسميا الجزء الثاني من الحرب الباردة بين الغرب وروسيا في انتظار الجزء الثالث الذي قد تصبح فيه الصين مستقبلا، ورغما عنها، محتلة مكان روسيا كعدو للغرب. ويبقى هذا الملف مؤشرا على تحرك الغرب لضمان استمرار قوته وتعزيز مكانته للحفاظ على ريادته للعالم اقتصاديا وسياسيا.
يوم الأول من مارس/آذار الماضي أعلن الرئيس الروسي فلادمير بوتين في أجواء من العظمة التاريخية تحول روسيا إلى قوة عسكرية لا تقهر بفضل الأسلحة التي طورها هذا البلد خلال السنوات العشر الأخيرة، ولم يتردد في تهديد الولايات المتحدة بالرد العسكري إذا استهدفت مصالح روسية في سوريا.
خطاب بوتين يعتبر بمثابة شهادة ميلاد عالم جيوسياسي جديد، نهاية حقيقية للعالم الأحادي القطب الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة طيلة عقدين ونصف تقريبا، وبداية حقيقية لعالم متعدد الأقطاب. إذ يؤكد التاريخ أن مستوى القوة العسكرية هي التي تصنع القطب الواحد أو العالم المتعدد الأقطاب وليس فقط الاقتصادية لأن اليابان قوة اقتصادية عالمية ولكنها بدون تأثير في العلاقات الدولية. عندما قال بوتين إن صاروخ سامارات لا مضاد له في الغرب بما فيه الدرع الصاروخي كان تحديا حقيقيا للغرب. وتابع قائلا إن روسيا ستدافع عن حلفائها إذا تعرضوا لهجوم نووي أو هجوم يهدد الكيان الوطني لهذه الدول الحليفة.
لقد استشعر الأستبلشمنت العميق في الغرب من خبراء في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية بخطورة روسيا التي لم تعد تتخبط في مشاكلها بل تساهم بقوة وأحيانا لوحدها في قرارات عالمية. يحدث هذا في وقت وصل إلى رئاسة الولايات المتحدة دونالد ترامب الذي يؤمن بالانفرادية الوطنية، أي شعار «الولايات المتحدة أولا» دون اهتمام حقيقي بالحلفاء والشركاء التاريخيين. ومن قراراته محاولة التخلي عن اتفاقية التجارة الحرة بين ضفتي المحيط الأطلسي، الولايات المتحدة وكندا مع الاتحاد الأوروبي ثم الضغط على دول الحلف الأطلسي لتحمل جزء كبير من ميزانية الدفاع العسكري.

وتحتاج المنعطفات التاريخية الكبرى إلى حدث رمزي لتشكيل واقع جديد بعدما تكون الظروف مهيئة ومواتية للتغيير الكبير. ونستعرض من التاريخ مثالين، الأول من القارة الأمريكية، في أواخر القرن التاسع عشر، ارتأت الولايات المتحدة أنه حان الوقت لطرد آخر قوة استعمارية في القارة الأمريكية وهي اسبانيا. وكانت حادثة ماين، الفرقاطة الأمريكية التي جرى تفجيرها في ميناء هافانا الكوبي سنة 1898، واتهمت واشنطن اسبانيا بهذا العمل، وطردت هذا البلد الأوروبي من القارة الأوروبية مجسدة بهذا العمل العسكري حلم أطروحة مونرو «أمريكا للأمريكيين» التي صاغها الرئيس الأمريكي مونرو في العشرينات من القرن 19 وتمت ترجمتها النهائية مع نهاية القرن نفسه بطرد الاسبان بعدما منعت واشنطن استعمار فرنسا وبريطانيا لأجزاء من أمريكا اللاتينية.
ويتجلى الحدث الثاني في قيام التونسي البوعزيزي بإحراق نفسه خلال كانون الأول/ ديسمبر 2010 ليفجر أكبر الانتفاضات السياسية في تاريخ الشعوب العربية – الأمازيغية بعدما كانت الأرضية من ظلم وفساد وقهر في العالم العربي مهيئة للانتفاضة والانفجار السياسي والاجتماعي.
ويمكن النظر إلى «ملف سكريبال» من هذه الزاوية الجيوسياسية، الحدث الذي يشكل منعطفا لترجمة تداعيات أجواء مهيئة مسبقا. منذ سنوات، والدول الغربية تعرب عن قلق عميق من سياسة روسيا، سواء في دعمها لنظام بشار الأسد الذي عجزت الآلة الغربية بدعم من أنظمة ملكية عن إسقاطه، أو قرار الكرملين ضم جزيرة القرم، وقبلها سحق التحدي الجيورجي وتنفيذ مناورات عسكرية مثل «زاباد» خلال سبتمبر/ايلول الماضي التي تجسد غزو جزء من القارة الأوروبية علاوة على التحكم في الغاز الروسي بشأن الإمدادات للأوروبيين.
ويعتبر «ملف سكريبال» غامضا للغاية، فالأمر يتعلق بموظف في الاستخبارات الروسية عمل لصالح البريطانيين وجرى اعتقاله سنة 2004 ثم تسليمه لبريطانيا سنة 2010 في إطار تبادل الجواسيس. ويبقى التساؤل: لماذا تنتظر موسكو ثماني سنوات للانتقام من سكريبال علما أنه كان محتجزا في سجون روسيا قبل تسليمه للغرب؟ استهداف سكريبال جنوب بريطانيا يوم 4 مارس/آذار الماضي بغاز الأعصاب لاغتياله، شكل السبب الرئيسي الذي جعل لندن وواشنطن تحركان دول الغرب برمته لطرد قرابة 160 دبلوماسيا، وترد موسكو بالمثل. كما شكل بداية إعادة الغرب لبناء دفاعه العسكري.
ويعتبر الملف غامضا إذ لم تقدم بريطانيا الأدلة الكاملة ولا تسعى إلى لجنة تحقيق دولية لتبيان الحقيقة. وعليه تتعدد الروايات حول هذا الملف وكلها تنهل من فكر المؤامرة السياسية وكذلك من معطيات الواقع. هناك اتهام لروسيا بالوقوف وراء الاغتيال، ثم اتهام روسيا لبريطانيا باختلاق هذا الملف، وأصابع تشير إلى المخابرات الأمريكية ثم أخرى تشير إلى إسرائيل بهدف تأليب الغرب ضد روسيا التي تسلح سوريا وإيران.
ويبقى المعطى الأهم حتى الآن هو أن ملف سكريبال عمل مخطط له بدقة لخلق واقع جديد في العلاقات الدولية بعدما أصبحت الظروف مواتية، الهدف هو تدشين الجزء الثاني من الحرب الباردة. التاريخ يؤكد أن الدول الكبرى لا يمكنها أن تبقى بدون عدو ومنافس، فأطروحة العدو من العوامل الرئيسية للحفاظ على القوة والهيمنة ومن محركات التاريخ الرئيسية كذلك. الأ

Sign In

Reset Your Password