بين حداثة أئمة تونس وحداثة أنصار مهرجان موازين المغربي

مكة المكرمة

أقدم أئمة تونس على اتخاذ قرار جريء وشجاع للغاية يتجلى في مطالبة مفتي ديار الجمهورية إصدار فتوى تتعلق بإبطال الحج هذا الموسم لحاجة البلاد الماسة لأموال الحج في توظيفها في التنمية، بينما تعرض ناشطون في المغرب، طالبوا بتوظيف أموال المهرجان الموسيقي موازين للغرض نفسه، إلى حرب شعواء باسم الحداثة.
ويثير موضوع الحج جدلا كبيرا في العالم الإسلامي نتيجة تصرفات العربية السعودية بعرقلتها حج مواطني بعض الدول التي وقعت لها معها خلافات سياسية، مثل قطر وإيران، وكأن الرياض قامت بخصخصة الأماكن المقدسة بدل الإشراف الموضوعي على مكة والمدينة، بعيدا عن الحساسيات والحسابات السياسية الضيقة والظرفية. ويتضمن بيان جمعية أئمة تونس شقين لتبرير تأجيل الحج خلال الموسم الجاري، شق سياسي- ديني، وهو تفادي توظيف عائدات الحج في قتل الأبرياء في حرب اليمن، التي تسجل جرائم ضد الإنسانية، بشهادة الأمم المتحدة نفسها. بينما يتجلى الشق الثاني في تغليب مصلحة الأمة، عبر توظيف الأموال التي تصرف في الحج في تنمية البلاد التي تجتاز أزمة اقتصادية، تعاني منها شرائح واسعة من المجتمع، لاسيما بعدما رفعت العائلة الملكية الحاكمة في السعودية من نسبة الرسوم الخاصة بالحج.
ومبادرة جريئة من هذا النوع في العالم العربي، التي اكتسبت قوة بسبب صدورها عن الأئمة وليس عن علمانيين، لا يمكن صدورها سوى عن بلد يعيش الديمقراطية وحرية تعبير متقدمة. وهي مبادرة تعكس وعيا عميقا من طرف القائمين على القطاع الديني في تونس، كما تعكس تخلص القطاع الديني من الهيمنة الرسمية، الأمر الذي لم يحدث بعد في أي بلد عربي، حيث تحول الدين إلى سيف يستعمل للعقاب وتبرير سياسات معينة وفق الظروف.
وبالتزامن مع المبادرة التونسية، طرح ناشطون مغاربة التقليل من المهرجانات الغنائية، ومنها تأجيل مهرجان موازين الضخم، وتوظيف أمواله  في تنمية البلاد، في وقت يشهد فيه المغرب ترديا مرعبا في التنمية، حيث مستويات الفقر أصبحت قياسية، وأضاف إلى تردي الصحة والتعليم والغياب شبه المطلق لفرص الشغل.
وإذا كان المجتمع المغربي قد رحب بفكرة الأئمة، والبعض تحفظ عليها، وكل طرف يقدم مبررات منطقية، في المقابل يشهد المغرب نقاشا عقيما، إذ بادر المعارضون لتأجيل المهرجانات ومنها موازين، بتوظيف سلاح الدين متهمين كل صوت له غيرة على تنمية البلاد ويطالب بتوظيف هذه الأموال في التنمية بأنه ضد التقدم والحداثة، وبأنه رجعي بل داعشي. ويسود لبس بشأن الحداثة لدى هذا الفريق الذي يتبجح بها. يعتقد أن الحداثة هي الإكثار من المهرجانات التي تناسلت، وتنظيم أكبر مهرجان في العالم العربي وإفريقيا مثل مهرجان موازين، والتوفر على أسرع قطار في إفريقيا، ويتناسى أن الحداثة تبدأ من ضمان كرامة الإنسان في بلد يسجل أعلى مستوى في البحر الأبيض المتوسط بشأن ولادة النساء في الشارع، بسبب عدم استقبال المستشفيات لهن. في الوقت ذاته، يقولون بمشاركة الشركات المغربية في تمويل المهرجان من دون مشاركة الدولة بأموال عمومية. وهذا التبرير هو استفزاز حقيقي للمواطن المغربي. في هذا الصدد، عندما ضربت الأزمة الاقتصادية الدول الأوروبية قامت بتجميد معظم المهرجانات، بما فيها تلك الثقافية العريقة، أو خفضت من ميزانياتها، علما بأن ميزانيات هذه الدول تفوق المغرب عشرات المرات. ولم تبادر أصوات إلى الاستنجاد بالدين الكاثوليكي لتتهم الكنيسة بالوقوف وراء عملية التأجيل، لأن هناك وعيا حقيقيا بالأولوية للمواطن على حساب الترفيه.
وحول تحجج أطراف بأن مصدر الأموال هي شركات خاصة، التي تمول مهرجانات مثل موازين، هو تبرير ضعيف لا يصمد أمام الواقع، بحكم أن كل مبلغ مالي يمنح للمهرجان يخصم من الضريبة التي يجب تأديتها للدولة، وهذا يعني تراجع العائدات المالية للدولة. وعلاقة بهذا الموضوع، لماذا تقتصر مساهمة الشركات عموما على سخاء مفرط لمهرجانات الدولة ومنها موازين، ولا يعرف عن هذه الشركات المشاركة في تمويل البحث العلمي واللقاءات العلمية والنهوض بالتعليم. وفي الغرب تقوم الشركات ومنها البنوك باحتضان أنشطة جامعية وتمويل أبحاث كبرى، وهذا التقليد يغيب في المغرب بشكل لافت للنظر.
وفي نقطة أخرى مرتبطة بالموضوع، اعتاد الفنانون الملتزمون المشاركة في المهرجانات بمقابل رمزي، أو التخلي عن مساهماتهم المالية، خاصة عندما عصفت الأزمة بأوروبا، وناشد منظمو بعض المهرجانات العريقة الفنانين بالمشاركة المجانية، ولبى أكثر من فنان هذا النداء، ولكنه لم يحدث في حالة المغرب. فقد وجه مواطنون مغاربة نداءات إلى فنانين مغاربة ومشارقة بعدم المشاركة في المهرجان، لأن البلاد في حاجة إلى الأموال، قلة قليلة من المغاربة لبت النداء، بل قاطعت مهرجان موازين بينما آخرون وعلى رأسهم بعض المشارقة طالبوا بمبالغ خيالية، ولبت إدارة مهرجان موازين طلبهم.
هنا يغيب ضمير أغلب الفنانين العرب الذين يهمهم الربح أولا وأخيرا.
جميل تنظيم مهرجانات فنية، ولكن تماشيا مع الإمكانيات البسيطة للبلاد وتماشيا مع حركية الإيقاع الفني في المغرب، وأن لا تتحول المهرجانات إلى ريع اقتصادي جديد بحكم سيطرة شركات معينة على تنظيمها.
تبقى مفارقة تاريخية كيف أقدم قطاع محافظ ينعت بالرجعي مثل الأئمة على المطالبة بتأجيل الحج وتوظيف الأموال في تنمية تونس، رغم ما لقداسة الحج عند المسلمين، بينما أنصار موازين الموسيقي، رافعو أعلام الحداثة، لا يستطيعون ولو المطالبة بتخفيض ميزانيته وتوظيف جزء منها لكرامة المواطن المغربي. صدق من قال «إذا كنت في المغرب فلا تستغرب».

Sign In

Reset Your Password