بعقوباتها ضد تركيا: الولايات المتحدة تصعد حربها ضد دول محور الحضارات القديمة – الصاعدة

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

أقدمت الإدارة الأمريكية على فرض عقوبات اقتصادية وسياسية على أربع دول في ظرف وجيز وهي إيران والصين وروسيا وأخيرا محاولة تدمير العملة التركية الليرة عبر أزمة مفتعلة. ولا يمكن اعتبار القرار أمريكيا محضا خاصة في حالة تركيا، بل غربيا تتزعمه واشنطن بسبب مواقف الأتراك السياسية واختياراتهم الجيوسياسية. وكل هذا يعطي الانطباع أن العالم دخل مرحلة مواجهة بين القوى التاريخية التي هيمنت على العالم قديما وتعود بقوة في الوقت الراهن والقوى الغربية التي تهيمن عليه الآن، وشعار المواجهة بالعقوبات الاقتصادية عبر آليات مختلفة بدل المواجهة العسكرية.
وفي ظرف سنة واحدة، أصبحت تعابير مثل «العقوبات الاقتصادية» و «الرفع من الرسوم الجمركية» تتصدر عناوين الإعلام عالميا وتقارير مراكز التفكير الاستراتيجي، لأنها تعكس عودة صراع قديم-جديد يرسم بوضوح مشهد الصراع حاليا وخلال العقدين المقبلين على الأقل إن لم نقل طيلة العقود الثمانية من القرن الواحد والعشرين إذا لن تقع تغييرات جذرية غير منتظرة.

تركيا تتحدى الغرب

وتعتبر العقوبات الأمريكية التي أعلنها البيت الأبيض منذ قرابة أسبوعين بالرفع من الرسوم الجمركية ضد بعض صادرات تركيا إلى السوق الأمريكية، عقابا واضحا لاختيارات جيوسياسية لأنقرة، وخاصة الطموح الاقتصادي الذي يقود إلى استقلالية القرار السياسي. في هذا الصدد، وقعت تركيا اتفاقيات استراتيجية مع روسيا تتضمن الطاقة والتبادل التجاري وانتقل الأمر إلى التعاون العسكري رغم عضوية تركيا في منظمة شمال الحلف الأطلسي.
وعلاقة بهذا، وقعت تركيا وروسيا اتفاقية لبناء محطات نووية لإنتاج الطاقة بقيمة 20 مليار دولار، وهي من أكبر الصفقات في تاريخ الطاقة النووية، وفضلت تركيا روسيا وليس دولة غربية مثل فرنسا المعروف عنها التقدم في الطاقة النووية السلمية. ويعود قرار أنقرة إلى عاملين، الأول، وعيها بأن روسيا لن تجمد المشروع في حالة أي نزاع عكس ما تعانيه اليوم من تجميد شراء مقاتلة ف 35 الأمريكية رغم أنها من الدول التي مولت هذا المشروع العسكري والآن صوت الكونغرس بعدم تسليم الطائرات إلى أنقرة. ويتجلى السبب الثاني في تفويت روسيا جزءا من أسرار الصناعة النووية عكس الغرب الذي يتستر على المعرفة النووية. في هذا الصدد، استقبلت روسيا 200 خبير نووي تركي لتكوينهم وتدريبهم في مراكزها، ويبقى الأساسي أن المحطة النووية التي تشيدها روسيا هي الأولى في تركيا، وستمكن هذا البلد الأخير من إنتاج الطاقة الكهربائية بوفرة لتحقيق قفزة نوعية في الإنتاج خاصة الصناعي والتقليل من مصادر الطاقة الكلاسيكية مثل النفط والغاز.
في الوقت ذاته، قررت تركيا وروسيا الرفع من التبادل التجاري بينهما من قرابة 27 مليار دولار حاليا إلى مئة مليار دولار خلال السنوات المقبلة. وهذا يعني بدء تغيير تركيا للغرب كشريك اقتصادي بدول مثل روسيا والصين. إذ سيتجاوز التبادل بين موسكو وأنقرة مجموع تبادل تركيا مع الغرب برمته مستقبلا. وفك الارتباط الاقتصادي الكبير يحمل معه بالضرورة مستقبلا التخلص من القبضة السياسية الغربية تدريجيا.
ومن الناحية السياسية، لا يقبل البيت الأبيض القمة التي عقدها الرئيس التركي طيب رجب اردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين والإيراني روحاني لتحديد مستقبل سوريا، بينما تسعى واشنطن جاهدة للحد من نفوذ إيران وروسيا في سوريا. ومرد هذا إلى تصور البيت الأبيض أن تركيا دولة حليفة لا يمكنها التنسيق مع دول عدوة أو منافسة للولايات المتحدة.
وعلاقة بالملف العسكري، تعتبر تركيا دولة في مقدمة المواجهة في حالة نشوب حرب مع روسيا بسبب عضويتها في منظمة شمال الحلف الأطلسي. لكن البيت الأبيض اندهش لقرار تركيا شراء منظومة صواريخ إس 400 وإجراء مناورات عسكرية مع روسيا وتطوير التعاون العسكري في مجالات متعددة. ويحدث هذا في وقت تعتبر تركيا عضوا في الحلف الأطلسي. وقد يتطور التعاون العسكري حاليا إلى اقتناء تركيا مقاتلات متطورة من سوخوي أو الميغ، ووقتها سيحدث الطلاق مع الحلف الأطلسي. وكانت «نيويورك تايمز» قد كتبت أن اقتناء تركيا منظومة إس 400 شكل طعنة للبنتاغون، وقررت واشنطن الرد.
ويضاف إلى كل هذا هو قلق الغرب من الاكتفاء الذاتي الذي بدأت تحققه تركيا، ابتداء من الأمن الغذائي إلى التقدم في الصناعات العسكرية والمدنية، وهو ما يجعلها تتحرر تدريجيا من هيمنة الغرب. وقليلة هي الدول في العالم التي تمتلك أمنها الغذائي والصناعي، وبالتالي التحكم في قراراتها الجيوسياسية.

الغرب يعاقب تركيا

أمام التحدي التركي، كان القرار بتدمير المركز الاقتصادي لتركيا دوليا من خلال توظيف قضية القس الأمريكي المعتقل في تركيا، وذلك باستهداف العملة الليرة، وبالتالي تقزيم دورها إقليميا والحد من طموحات الانتقال إلى دولة فاعلة اقتصاديا في الساحة الدولية. ويدرك الغرب شبه فقدانه لتركيا بعدما بدأت تعزز تجارتها مع الصين وروسيا، إذ لا يمكن لتركيا مواجهة روسيا مستقبلا وهي تعمل على جعل هذا البلد الشريك الاقتصادي الأول.
ولفهم ما تتعرض له تركيا من أزمة مفتعلة، يشرح الاقتصادي الأمريكي جون بيركينز في كتابه «الاغتيال الاقتصادي» كيف تتلاعب الاستخبارات الغربية وعلى رأسها الأمريكية برفقة المؤسسات المالية الدولية بمصير الدول بتنفيذ ما سماه «اغتيال اقتصاد هذه الدول» وتحويلها إلى تابعة للغرب دائما مثل إغراقها في الديون وضرب عملتها. وساهم بيركينز في تنفيذ هذه المخططات في الماضي. وما تعرضت له تركيا يعتبر مؤامرة حقيقية. فمن خلال ضرب عملة الليرة وجعلها تتراجع بشكل مهول أمام الدولار، سيتم تحقيق هدفين، الأول وهو رفع مديونية تركيا إلى الضعف أو ثلاث مرات دون اقتراضها ديونا جديدة، إذ بمجرد تراجع الليرة سترتفع قيمة الديون بسبب ارتفاع الدولار لأن الديون تؤدى بالدولار في الغالب. وقبل أزمة الليرة، كانت ديون تركيا هي 450 مليار دولار، أي قرابة 51 في المئة من الناتج الإجمالي الخام، وهو مبلغ قابل للسيطرة عليه جدا لأنه محدود ولا يصل مستوى مديونية بعض الدول مثل اسبانيا وفرنسا بأكثر من 90 في المئة من الناتج الإجمالي الخام. ويتجلى الهدف الثاني في تقزيم الإنتاج الداخلي الخام لتركيا، إذ سيترتب عن تراجع الليرة مباشرة تراجع الإنتاج القومي الخام في حالة احتسابه بالدولار.
ولا تعتبر الولايات المتحدة شريكا ضمن الشركاء الأربع الأوائل لتركيا ولا تشكل المبادلات التجارية التركية-الأمريكية سوى أقل من 5 في المئة من مبادلات تركيا مع العالم، ورغم ذلك، كان لفرض رسوم على صادرات تركيا من الألمنيوم وقضبان الحديد للسوق الأمريكية كافية لتعريض عملة الليرة إلى خسائر جمة، وهو ما يتناقض ومنطق الاقتصاد وتحضر المؤامرة والاستهداف بوضوح.

الانعكاسات:
التشكيك في مستقبل الدولار

الهجوم الاقتصادي الأمريكي على تركيا سيحمل بدون شك انعكاسات جديدة في العلاقات الدولية وخاصة من الناحية الاقتصادية والسياسية كذلك. ويمكن تقسيم هذه الانعكاسات إلى قسمين، الأول خاص بتركيا بينما الثاني يهم عددا من الدول الكبرى والصاعدة.
وعلاقة بتركيا، تعتبر تصريحات اردوغان دالة للغاية، فقد اتهم الولايات المتحدة بطعن بلاده في الظهر، وهذا ليس من شيم الحلفاء. وبدأت العقوبات الأمريكية تشكل حافزا قويا لتركيا بتطوير العلاقات التجارية مع دول أخرى في محيطها الإقليمي والرهان على العملات الوطنية بديلا للدولار. والبداية ستكون مع روسيا ثم إيران والصين. كما سيدفع القرار الأمريكي تركيا إلى أحضان السياسة الروسية، وهو ما يحصل حاليا في التنسيق مع موسكو في سوريا، ثم بدء تطبيق أنقرة لبعض مخططاتها المستقبلية وهو بناء تحالف إسلامي قوي مع إيران وباكستان لإنشاء حلف اقتصادي وعسكري وسياسي ذو مرجعية إسلامية له وزن في الساحة العالمية. وفكرة التحالف الثلاثي من المشاريع التي تقلق الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة لأنه سيعني بداية استقلال الشرق الأوسط عن تأثير مخططات الغرب.
وعلى مستوى جماعي، بعد الأزمة التركية وقبلها العقوبات التي فرضتها واشنطن على الصين وروسيا، قد تتخذ بعض الدول الكبرى ومنها مجموعة البريكس قرار تعويض الدولار بعملاتها الوطنية أو إنشاء عملة موحدة. كما يدفع تركيا إلى الانضمام إلى هذه المجموعة الاقتصادية-السياسية للحصول على الدعم الدولي الذي تبحث عنه. في هذا الصدد، يقول رئيس لجنة الأسواق المالية في مجلس الدوما الروسي أناتولي أكساكوف «إن استخدام واشنطن الدولار كوسيلة للضغط على الدول الأخرى سيؤدي إلى خلق عملة عالمية بديلة تنهي وضع الدولار كعملة دولية رئيسية». وكتبت جريدة «فايننشال تايمز» على ضوء الأزمة التركية بأن استعمال العقوبات الاقتصادية التي تطبقها إدارة الرئيس دونالد ترامب ستقود الدول إلى الابتعاد عن النظام المالي القائم على الدولار الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية ويستمر حتى وقتنا الراهن. وعمليا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لأول مرة يتعرض الدولار إلى التشكيك في دوره المالي مستقبلا بسبب نية قوى اقتصادية كبرى التخلي عنه وأساسا روسيا والصين.
المتأمل في تطورات المواجهة بين الولايات المتحدة بدعم من باقي أعضــاء الغرب مثل بريطــانيا في مواجهة قوـــى مثل روسيا والصين وإيران والآن تركـيــا، هي في العـمــق مواجــهـة بين القوى التي تمثل حــضــارات تاريخية تعود بقوة إلى واجهة لعب دور رئيسي في الأحداث الدولية وأخرى التي تمثل القوى التي ظهرت خلال الثلاثة قرون الأخيرة وتشكل الغرب.

Sign In

Reset Your Password