ويكليكس: كنز للصحفيين والمؤرخين ومقبرة لمخابرات العالم والتسريب لم يمس الصين وروسيا حتى الآن

ويكليكس

عادت ويكليكس الى المشهد الاعلامي والسياسي العالمي خلال الأسبوعين الأخيرين بفضل نشرها الوثائق السرية للعربية السعودية ووكالة الأمن القومي  في تجسسها على رؤساء  فرنسا. وتحدث ويكليكس ثورة في مجال الصحافة بل وكذلك في إعادة كتابة حلقات من التاريخ الدولي بفضل الوثائق التي سربتها وتسببت في أزمات دولية. وارتبطت عمليات التسريب أساسا بالتطور في وسائل التواصل من فوطوكوبي الى الإنترنت.  ويبقى المثير حتى الآن، هو امتداد التسريبات الى الدول العربية وحلفاءها مثل السعودية ولم تمس دول تستعمل تكنولوجيا مختلفة عن الغرب مثل روسيا وإيران.

ولعل المنعطف في تسريب الوثائق السرية ذات الحساسية عالميا يعود الى الأمريكي دانييل إلسبيرغ الذي استغل آلة النسخ فوطوكوبي في أواخر الستينات وأوائل السبعينات وقام بنسخ سبعة آلاف وثيقة حول حرب الفيتنام، مستغلا منصبه كمحلل في المعهد الأمريكي للدراسات المستقبلية راند، وقام لاحقا بتسريب “وثائق البنتاغون”  التي كانت تقع في 47 مجلد حول العمليات العسكرية بما فيها مخططات البنتاغون بنشر متعمد للحرب في منطقة جنوب آسيا.

وبدأت وسائل الاعلام الأمريكية مثل تايم ونيويورك تايمز والواشنطن بوست نشر الوثائق سنة 1971 وشكلت عملية النشر ثورة حقيقية وسابقة بكل المقاييس. فلأول مرة يقف الرأي العام الدولي على وثائق سرية صادرة عن المؤسسات العسكرية والبيت الأبيض وكانت تتضمن معطيات مختلفة عن الخطاب الرسمي الأمريكي.

وتجلت أهمية “وثائق البنتاغون” أكثر في أن الدوائر الغربية لم تكن تكشف عن الوثائق السرية. لم يكن قد تم اعتماد العمل بعد بسياسة الكشف عن الأرشيف بعد مرور مدة زمنية محددة ووضعه أمام الباحثين والصحفيين. وتعتمد الآن هذه السياسية حيث يتم وضع الأرشيف رهن الباحثين والمهتمينبعد مرور مدة زمنية معنية.  بل ورغم هذه السياسة في الكشف عن الأرشيف يتم في الغالب حجب معلومات بل ووثائق كاملة.  وثانيا، تعلقت الوثائق بموضوع شغل العالم في الستينات والسبعينات وهي حرب الفيتنام التي شكلت أول هزيمة للولايات المتحدة ضمن جميع الحروب التي خاضتها بعد استقلالها عن بريطانيا.

ومنذ وثائق البنتاغون في أوائل السبعينات لم يجد العالم نفسه أمام كم هائل من الوثائق السرية كما حدث سنة 2010 مع الوثائق السرية للخارجية والبنتاغون الأمريكي التي سربتها ويكليكس محدثة هزة في العلاقات الدولية. ومنذ تسريب 2010، اكتشف العالم وجود جمعية تأسست في صمت سنة 2006 من طرف نشطاء خبراء في مجال الإنترنت والمعلوميات والعلاقات الدولية، وفي ظرف وجيز أصبحت تؤرق الحكومات والدول وعاملا هاما في العلاقات الدولية بسبب ما تقوم بتسريبه من وثائق.

وقدم الأعضاء المعروفين من ويكليكس، وهو قلة للغاية بينما الباقي يعمل في صمت، الأهداف التي تسعى وراءها ويكليكس وهي تصب في صالح الرأي العام. ويقول المؤسس والوجه البارز الأسترالي جوليان أسانج، الموجود في سفارة الإكوادور في لندن هربا من الملاحقة الأمريكية والسويدية “هدف ويكليكس هو فتح أسرار الحكومات على الرأي العام العالمي”.

وعمليا، نجحت ويكليكس في هذه المهمة منذ بدء التسريبات سنة 2007 الى سنة 2015، حيث اكتشف مواطنو العالم الكثير من الأسرار حول حكوماتهم عبر الوثائق الأمريكية. ويبقى المنعطف الهام هو تسريبات سنة 2010 التي شكلت ثورة كبيرة للأسباب التالية:

في المقام الأول، كشفت التسريبات للرأي العام الكثير من أسرار دهاليز  السياسة الدولية، وأوضحت نوعية العلاقات الحقيقية وراء الستار بينما العلاقات الدبلوماسية العلنية مجرد ديكور وتصريحات مجاملة. وتعتبر العلاقات الأمريكية-العربية خير مثال في هذا الصدد. فبينما كانت تصدر تصريحات مجاملة  ومحاباة عن رؤساء البيت الأبيض ووزراء خارجيتهم تجاه أنظمة عربية وتصفهم بالمصلحين بل وديمقراطيين، كانت تقارير السفارات وملحقيها العسكريين والاستخباراتيين يحررون التقارير الحقيقية لتقييم الوضع الواقعي للدول العربية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. في هذا الصدد، وقف القارئ العربي للوثائق السرية التي سربتها ويكليكس على الفساد الذي ينخر الدول العربية من المحيط الى الخليج من أنظمة ملكية وجمهورية، فساد شمل الصفقات السياسية والمالية والاستخباراتية، كما وقف الى نظرة الازدراء في التقارير تجاه بعض الزعماء العرب.

في المقام الثاني، وجدت الصحافة الدولية في وثائق ويكليكس كنزا إعلاميا هاما للغاية، وإن كانت الصحافة العربية قد عجزت على مواكبة كل الوثائق لافتقادها خبراء لمعالجة الكم الهائل من الوثائق والمعطيات الواردة فيها. ويبقى مفهوم الكنز الحقيقي هو ما شكلته للمؤرخين والمختصين في العلاقات الدولية. فقد سمحت الوثائق المسربة بإلقاء الضوء على الكثير من المعطيات التاريخية التي كان المؤرخ يقف أمامها عاجزا بسبب غياب معلومات. وفي الوقت ذاته، سمحت وثائق ويكليكس للخبراء في الدراسات الاستراتيجية بفهم أعمق لكيفية عمل الحكومات وكيفية صنع القرار في القرن الواحد والعشرين.

وفي المقام الثالث، تشكل تسريبات ويكليكس أكبر تحد للمخابرات العالمية بما فيها الأمريكية. فقد سربت ويكليكس وثائق بريطانية وسعودية وأخرى للاتحاد الأوروبي وأخرى تابعة لوكالات استخبارات خاصة مثل ستراتفور ثم أساسا تسريبات أمريكية. ولعل أكبر ضربة هو نجاحها في تسريب وثائق لوكالة الأمن القومي مؤخرا وكيف كانت تتجسس على رؤساء فرنسا، علما أن هذه الوكالة تعتبر الأكبر من نوعها في العالم بفضل ما تتوفر عليه من تجهيزات مثل الأقمار الاصطناعية التي تراقب العالم. وهنا يحضر دور موظف هذه الوكالة إدوارد سنودن الذي لم يكن عضوا في ويكليكس، ولكن وثائقه وصلت الى هذه الجمعية. وأصبح هاجس المخابرات في العالم هو كيفية حماية وثائقها السرية من الاختراق الخارجي. وتبدو العملية صعبة، أولا وجود دول لا تنتج التكنولوجيا وتبقى رهينة البرامج التي تشتريها من الخارج. والصعوبة الثانية لأنه لأول مرة في التاريخ لا تتحكم الدول في برامج التجسس بل كذلك الخواص وخاصة القراصنة الذين يبدعون في هذا المجال ويتفوقون أحيانا على دول كبرى، كما أبانت  التجربة.

في المقام الرابع، الوثائق التي جرى تسريبها حتى الآن هي وثائق لدول غربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ودول حليفة للغرب مثل العربية السعودية. وهذا يعني تسريب وثائق لدول تعمل بتكنولوجيا غربية محضة، ويبقى التساؤل، أنه بعد سبع سنوات من ظهور ويكليكس لم يتم تسريب وثائق سرية لدول تستعمل تكنولوجيا في التواصل والتشفير والتخزين مختلفة عن الغرب، ونعني هنا دول مثل الصين وروسيا وأخرى متعاطفة معها مثل إيران.

وهذا المعطى الأخير، يدفع بعض الخبراء الى الاعتقاد في وقوف جهاز مخابراتي كبير يمتلك التقنية الكبيرة من حجم الروسي أو الصيني في لعبة تسهيل الوثائق بطريقة من الطرق.  فواشنطن لا تتردد في اتهام الصين بالتجسس الرقمي عليها وآخرها ما نشرته نيويورك تايمز بقيام بكين  مؤخرا اختراق حواسيب الإدارة الأمريكية للحصول على هوية وأسماء كل الموظفين الفيدراليين في الولايات المتحدة.

وسواء كانت لعبة مخابرات دولية أو أهداف نبيلة لنشطاء ضد سرية الحكومات، فقد ساهمت ويكليكس في إزالة الغطاء عن أسرار تهم الرأي العام العالمي وتحولت الى مقبرة للمخابرات وكنز للمؤرخين والصحفيين.

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password