موضة الحديث عن الحروب

صاروخ حربي

نشرت جريدة «لوموند» الفرنسية مقالا افتتاحيا يوم 6 يناير/كانون الثاني الجاري يتعلق بالمناطق التي يمكن أن تكون مسرحا للحرب خلال سنة 2022، ورصدت ثلاثا منها وهي: إيران وتايوان وأوكرانيا، واعتبرت هذه المناطق مرتبطة بمصالح حيوية للقوى الثلاث الكبرى وهي، الولايات المتحدة وروسيا والصين. واستعرضت عددا من العوامل ما بين المقنعة، وغير المقنعة. والتمعن في معطيات الواقع وعلاقتها بمستقبل ومخططات الدول، تجعل الحرب في إيران وتايوان مستبعدة إن لم تكن مستحيلة.
ويرتب المقال الافتتاحي، أي الافتتاحية الموقعة، وهذا يعني موقف المؤسسة الإعلامية، وفي هذه الحالة قراءتها للمستقبل، فرضية الحرب الأكثر قابلية للنشوب وهي كالتالي: الملف الأوكراني والملف الإيراني ثم ملف تايوان. ويبدو هذا التصنيف في الحالة الأولى منطقيا، خاصة إذا أخذنا كمعيار الوجود العسكري في أوكرانيا، ثم المساحة التي يحتلها كل نزاع في وسائل الإعلام الدولية.

وتبقى فرضية حرب روسية ضد أوكرانيا واردة للغاية لوجود ثلاثة أسباب رئيسية وهي: أولا، اعتناق روسيا عقيدة جديدة وهي عدم التسامح مع أي تهديد سيأتيها من الجمهوريات السوفييتية السابقة، ثانيا، وجود سوابق في تطبيق هذه العقيدة في جورجيا سنة 2009 وفي جزيرة القرم سنة 2014، وأخيرا، عدم قدرة الغرب على ردع روسيا في تطبيق مخططاتها، لا عسكريا ولا اقتصاديا، يضاف إلى كل هذا الوجود العسكري الروسي المكثف على الحدود مع أوكرانيا ثم وجود طائفة روسية كبيرة شرق وجنوب البلاد تبرر التدخل الروسي. وتبقى تكهنات «لوموند» قاصرة خاصة في الحرب ضد إيران وتايوان لأن التحليل يفتقد للرؤية الواقعية للنزاعين، خاصة في علاقتهما سواء بالمجال العسكري أو آفاق المستقبل لبعض الدول، خاصة الصين.

في عدد من المناسبات ومنذ سنوات، وبينما كان الجميع يتحدث عن الحرب وما زال، استعرضنا الأسباب التي تجعل حربا أمريكية – إسرائيلية ضد إيران بسبب ملفها النووي مستبعدة في كل المقاييس، إن لم تكن مستحيلة، باستثناء في حالة هجوم إيران على إسرائيل. وبالتالي يبقى تحليل جريدة «لوموند» قاصرا للغاية. وأبرز هذه العوامل التي تجعل الحرب مستبعدة هي: لا تمتلك إسرائيل القدرة العسكرية الكافية لمهاجمة إيران، فهي لم تعد تشكل حتى قوة للردع في منطقة الشرق الأوسط، كما لا تمتلك قوة عسكرية دفاعية من صواريخ إيران. من جانب آخر، لا تضمن الولايات المتحدة نجاح تدمير البرنامج النووي الإيراني بهجوم كلاسيكي باستثناء ما إذا استعملت الأسلحة النووية، وهذا أمر لا يمكن حدوثه نهائيا في الوقت الراهن ولا مستقبلا. وعلاوة على كل هذا، لا يرغب الكثير من المحللين الإيمان، وتقبل معطى تتبناه الدولة العميقة الأمريكية بعد حرب العراق سنة 2003 وهو القبول بإيران نووية، كما قبلت بباكستان دولة نووية. وكان هذا المعطى وراء منع الدولة العميقة للرئيس جورج بوش الابن شن حرب ضد إيران سنة 2006. وعلاقة بالملف الصيني، عند كل مناورات حربية أو تجربة سلاح جديد، مثل الصواريخ التي تفوق الصوت من طرف الجيش الصيني أو تعزيز الولايات المتحدة لوجودها العسكري في الجانب الآسيوي من المحيط الهادئ، تنفجر الصحف العالمية بتحاليل الخبراء الذين يتحدثون عن حرب وشيكة ستبدأ بهجوم صيني على تايوان ورد أمريكي سريع. وتتبع طريقة التفكير السياسي -الاستراتيجي للصين الجديدة منذ السبعينيات من خلال نهجها سياسة الانفتاح التي دشنها الرئيس دينغ شياو بينغ حينئذ إلى يومنا هذا، ثم نوعية القرارات التي تتخذها، سيجعل المحلل ينتهي الى خلاصة مفادها صعوبة، إن لم نقل استحالة شن الصين حربا ضد تايوان. في المقام الأول، تعايشت الصين مع تايوان ككيان مستقل لعقود طويلة، وهي مستعدة للتعايش لعقود أخرى، خاصة أن تايوان لا تعلن عن طموحات سياسية، بل تميل الى الحوار. تمتلك بكين أجندة استراتيجية لن تجعل ملف تايوان يشوش عليها، وتتجلى في: الاستمرار في بناء الاقتصاد الصيني، لتصبح البلاد أول قوة اقتصادية في العالم، فقد كان الاقتصاد الصيني لا يتجاوز 2% من اقتصاد العالم سنة 1980، والآن يشكل قرابة 18%، وهذا يعد معجزة حقيقية لم تحدث في التاريخ. ومن جهة أخرى، تستمر الصين في بناء قوتها العسكرية، سواء تطوير ترسانتها الحربية، وتحقق قفزة نوعية في هذا المجال، ثم التخطيط للانتشار العسكري في العالم عبر قواعد في بعض الدول واتفاقيات عسكرية للدفاع. وستستمر الصين في هذا النهج على الأقل حتى سنة 2047، التاريخ الذي حددته لتصبح أول قوة في العالم بدل الولايات المتحدة. وبالتالي، ستجعل تايوان تنضم تدريجيا الى الوحدة الصينية عبر تطبيق دولة ونظامين، الذي طبقته في هونغ كونغ عند استعادتها من بريطانيا إبان التسعينيات، وستتجنب الصين الحرب ضد تايوان بسبب الأهداف المسطرة، لكن ستقع الحرب في الحالتين التاليتين وهما: في المقام الأول، إذا بدأت دول العالم، خاصة المؤثرة منها في الاعتراف بتايوان كدولة (تعترف بها قرابة 15 دولة هامشية وثانوية مثل جزر مارشال) هذا سيدفع الصين إلى شن الحرب وفرض الأمر الواقع. في المقام الثاني، إذا احتضنت تايوان قواعد عسكرية تشكل تهديدا للأمن القومي الصيني، وقتها لن تتردد بكين في تطبيق العقيدة الروسية وكيف تعاملت مع أوكرانيا في منطقة شبه جزيرة القرم.
الحديث عن نشوب الحروب الكبرى أصبح موضة في وسائل الإعلام الدولية بما فيها التي تتحلى برزانة التحليل، لكن المرء يتفاجأ عندما لا يجد تلك المواضيع موقعة من طرف محللين كبار أو ضباط سابقين، بل من طرف إعلاميين لا يتحلون باليقظة الفكرية، بل يتعاملون مع القضايا الكبرى مثل الرهان على نتائج مباريات كرة القدم. عندما عين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب جون بولتون مستشارا للأمن القومي تناسلت المقالات التحليلية التي تتحدث عن وقوع حروب من فنزويلا إلى تايوان مرورا بإيران، ولم تقع أي حرب لاحقا.
لن يشهد العالم حروبا كبرى، لأن الدول الكبرى لن تتحمل النتائج الجيوسياسية التي قد تترتب عنها، وبالتالي تفضل الوضع الحالي. لكن العالم سيستمر في تسجيل نزاعات عسكرية، وما يجري في أوكرانيا هو نزاع لن يؤدي إلى حرب كبرى. إذا هاجمت روسيا أوكرانيا وضمت أقاليم من الشرق وهي لوغانسك ودونيتسك، سيندد الغرب وسيحاول فرض عقوبات اقتصادية أمام الحرب بسبب تايوان أو إيران فهي تدخل في نطاق الخيال العلمي.

Sign In

Reset Your Password