ماكيافيللي… فيلسوف شر أم واقع سياسي؟ زيد خلدون جميل

ميكيافيلي

تم ربط يديّ الرجل البائس، الموثقتين أصلا خلف ظهره، بحبل مرتبط ببكرة مثبتة بالسقف. وتم سحب ذلك الحبل إلى الأعلى رافعا معه الرجل الذي شعر بآلام رهيبة في كتفيه، إلى درجة أنه شعر بأن ذراعيه على وشك الانفصال عن جسمه، لاسيما عندما كان المسؤولون عن التعذيب يتركون الحبل فجأة ليسقط جسده سريعا، ثم يسحبون الحبل مرة ثانية وبشكل فجائي قبل ارتطامه بالأرض. ولكنه مع ذلك لم يعترف بشيء، على الرغم من استمرار هذا التعذيب لمدة ثلاثة أسابيع، فأما أن الرجل كان بريئا من التهم الموجهة إليه، أو أنه كان شجاعا وصلبا إلى درجة غير عادية. ولم تكن هذه الطريقة المفرطة في التعذيب نادرة، بل كانت منتشرة في أوروبا القرنين الخامس عشر والسادس عشر وحتى السابع عشر.
خرج هذا الرجل من السجن الواقع في مدينة «فلورنسا» الإيطالية، التي قضى حياته دفاعا عنها. والغريب في الأمر أنه لحسن الحظ بقي سالم الكتفين، حيث سرعان ما بدأ بتأليف كتاب أثار لغطا عالميا نراه يتزايد حتى اليوم، هو كتاب «الأمير»، الذي كان أول وأشهر كتاب في مجال العلوم السياسية. ولم يكن هذا الرجل الذي تعرض لذلك التعذيب البشع سوى الفيلسوف والكاتب الإيطالي الكبير ماكيافيللي، الذي اعتبر فيلسوف الأساليب الممكنة المستندة إلى الخيانة والخداع والقسوة المفرطة، وغير الأخلاقية في عالم السياسة، حتى أن تلك الوسائل في عالم السياسة أخذت تسمى بالوسائل «الميكيافيلية». ويعتبر ماكيافيللي مؤسس علم السياسة. ولكن هل فهم كل من قرأ الكتاب ما كان يقصده الكاتب فعلا؟

إيطاليا في زمن ماكيافيللي

لم تكن إيطاليا في القرنين الخامس والسادس عشر مشابهة لإيطاليا اليوم، حيث كانت منقسمة إلى خمسة دويلات صغيرة رئيسية متحاربة في ما بينها. وكان منها «فلورنسا»، والمناطق التي حكمها البابا التي شملت «روما»، ومناطق أخرى حيث كان للبابا جيش خاص به. وكان قائد الجيش البابوي في تلك الفترة سيزار بورجيا، الابن غير الشرعي للبابا (لم يكن الابن الوحيد له)، الذي كان الأكثر قسوة والأسوأ سمعة بين جميع القادة في إيطاليا. ولم تكن هذه الدويلات تملك جيوشها الخاصة، بل اعتمدت على جيوش متكونة من المرتزقة الذين كانوا يقاتلون لمن يدفع فقط. ولذلك كانت تلك الجيوش تغير ولاءها في أكثر اللحظات سوءا وحرجا. ومما زاد الطين بلة، تحالف بعض الدويلات مع القوى العظمى في تلك الفترة مثل، إسبانيا وفرنسا، التي أصبح لجيوشها حضور في الساحة السياسية في إيطاليا وتتلاعب بموازين القوى.

فلورنسا

كانت فلورنسا في تلك الفترة جمهورية بقيادة سياسيين منتخبين، ولكنها كانت في الواقع تحت سيطرة العوائل الثرية، وعلى رأسها عائلة مديتشي، التي كانت الأكثر ثراء (كان نصف سكان المدينة يعملون لدى عائلة مديتشي في إحدى الفترات) ودهاء حيث سيطرت على السياسيين عن طريق الرشوة. وبهذه الطريقة حافظت هذه العائلة بالذات على نفسها من انتقام بقية العوائل الثرية منها، ومن حالات الشغب الكثيرة التي كانت تعصف بالمدينة بين الحين والآخر. ولكن حظ هذه العائلة تغير عام 1494 عندما واجهت صعوبات مالية، وقام الجيش الفرنسي المتحالف مع دويلة ميلان باقتحام المدينة والإطاحة بالنظام القائم. وطُرِدَت العائلة من المدينة التي سيطر عليها رجل دين متطرف وزاهد سمي بحارق الكتب. ولكنه لم يمكث طويلا، حيث سرعان ما أطيح به بعد أربعة اعوام، وتعرض لتعذيب شديد، وكانت نهايته الإعدام حرقا في مركز المدينة.

ماكيافيللي

ولد نيكولو ماكيافيللي عام 1469 في مدينة فلورنسا لعائلة محترمة ومتعلمة. ووفر له والده أفضل تعليم ممكن في تلك الفترة ليكون موظفا في الدولة. واستطاع ماكيافيللي بدراسته المتواصلة وذكائه، أن يكون ناجحا في مسيرته المهنية حتى دخل مجال العمل الحكومي مباشرة، بعد الإطاحة برجل الدين الذي حكم المدينة. وعين ماكيافيللي أمينا عاما لمجلس العشرة الذي كان مسؤولا عن السياسة الخارجية والدفاع، وبقي في منصبه أربعة عشر عاما. ومكنه هذا من مقابلة أشهر رجال عصره من الملوك والأمراء، إذ سافر إلى عدة عواصم حتى أنه مكث في البلاط الفرنسي عدة أشهر وهو يتفاوض مع رجال البلاط. وكان حلمه أن يكون سفيرا، إلا أنه لم يفلح في هذا لعدم كونه من عائلة ارستقراطية. وعبّر عن امتعاضه من كون فلورنسا ضعيفة وضئيلة الشأن في إيطاليا، ولذلك حاول كل جهده تجنيب فلورنسان أي مواجهات مسلحة قدر الإمكان. وبسبب عدم ثقته بجيوش المرتزقة، بادر بتأسيس جيش محلي عام 1506 مكونا من أربعمئة فلاح محلي، حتى أنهم قاموا باستعراض عسكري في مركز المدينة في العام التالي. ولم يكن ذلك بالأمر الهين، حيث خشي الفلاحون من احتمال تعرضهم للضرائب في حالة انخراطهم في صفوف الجيش، كما لعبت العداوات بين القرى المتجاورة دورا في رفض الفلاحين للانضمام. وفي البداية كانت نتائج هذا الجيش مشجعة، حيث انتصر على إحدى المدن المجاورة الصغيرة. إلا أنه لم يكن شيئا يذكر في مواجهة القوات الإسبانية، التي أطاحت بالطبقة الحاكمة، بتشجيع من البابا، وأعادت عائلة مديتشي إلى الحكم بقيادة لورينزو مديتشي، الذي قام بطرد ماكيافيللي من منصبه، ثم سرعان ما أمر بالقبض عليه بتهمة التآمر على النظام الجديد.
وتعرض ماكيافيللي إلى تعذيب شنيع (كما ذكر أعلاه) توقف بعد ثلاثة أسابيع حيث تم العفو عنه، عندما تولى أحد افراد العائلة منصب البابا في روما. وانتقل ماكيافيللي إلى مزرعته ليقضي أياما صعبة فيها، بعد أن كان في قمة الطبقة السياسية في المدينة. وبعد نجاته من التعذيب والسجن بعشرة أشهر كتب إلى أحد اصدقائه أنه يقوم بكتابة «عمل صغير». وكان في الواقع يتحدث عن كتاب «الأمير» الشهير.

كتاب «الأمير»

يعتبر كتاب «الامير» مدخل إلى دراسة العلوم السياسية مع الأخذ بنظر الاعتبار، أنه كان أول كتاب من هذا النوع في العصر الحديث. والكتاب في الحقيقة شرح مفصل عن كيفية استعمال الحاكم للقوة لتحقيق الخير، حتى إذا اضطر أن يستعمل أساليب شريرة للحفاظ على السلطة، ومؤسسات الدولة والاستقرار. ويشرح ماكيافيللي بإسهاب أن على الحاكم أن يكون محبوبا ومخيفا في الوقت نفسه، ولكن في حالة فشل الحاكم في أن يكون محبوبا، فعليه أن يكون على الأقل مخيفا. والسبب أن كونه محبوبا يعني أن طاعة المواطنين له ستكون اختيارية. ولكنه إن كان مخيفا، فستعني عدم طاعته التعرض للعقاب حيث يقول «إن الخوف هو الخوف من العقاب، وهو شيء لا ينساه الناس أبدا». ومع ذلك يقول ماكيافيللي، إن الطريقة الأمثل للحفاظ على النصر هي مصاحبته ببعض الاحترام، خاصة احترام العدالة، حيث أن الحاكم عليه أن يحاول أن يكون محبوبا ومحافظا على المصلحة العامة. ويوضح ماكيافيللي أن الحليف ليس بصديق، حيث أن التحالف يخدم مصالح محددة، وما أن تنتهي هذه المصالح يتم إلغاء التحالف. ولذلك، على الحاكم ألا يخدع نفسه بالاعتقاد أن حلفاءه أصدقاء، مهما كانوا مخلصين في مظهرهم، حيث أنهم سيتحولون إلى أعداء فور اقتضاء مصالحهم.

ويذكر ماكيافيللي أن الحاكم يجب أن يكون قويا وحازما وسريع القرار، ولكن عليه كذلك ملاحظة أن هذا القرار، مهما كان، لا يمكن أن يكون آمنا تماما، حيث يبقى احتمال المخاطرة موجودا دائما. وبالتالي، فعليه استخدام القوة والخداع ضد كل من تسول له نفسه ويحاول تحدي السلطة القائمة، فالعالم مليء بالسيئين الذين لا يعرفون لغة الأخلاق والفضيلة. وبذلك، فإن ماكيافيللي يعري عالم السياسة من أي غطاء أخلاقي، أو نظريات إنسانية تجمله، حيث أن الغاية تبرر الوسيلة دائما. ولكن ماكيافيللي لم يقدم هذه الأفكار كهدف بحد ذاته، بل كوسيلة تستخدم عند الضرورة فقط، إذ كانت حماية الدولة بجميع الوسائل المتاحة هدفه الأوحد، فالدولة المستقرة تعتمد بشكل خاص على القوة والخداع أكثر من عمل الخير، والأخلاق في رأيه. ولذلك فإن ماكيافيللي، ربما كان الفيلسوف المستقيم الأول (وربما الوحيد) الذي فضح واقع عالم السياسة، الذي ليست الاستقامة بالضرورة من سماته.
وركز الكتاب على أن النظام الحاكم يجب أن يعرف قدر نفسه، حيث أن حكام فلورنسا كانوا يعطون لمدينتهم أهمية ومكانة مبالغ بها، بينما كانت في الحقيقة ليست ذات شان يذكر بالنسبة للقوى العظمى. اعتمد ماكيافيللي في كتابه على أمثلة كثيرة مأخوذة من التاريخ الروماني والإغريقي، وكان إعجابه واضحا بالملك اليوناني الإسكندر المقدوني، والإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، وبالغ في تقدير فضائلهما. ولكنه كذلك ذكر أن الامبراطورية الرومانية، ازدهرت لأنها كانت قادرة على إعلان الحرب عندما كان ذلك ضروريا، معتمدة على جيوش تكونت من مواطنين رومان، ولكنها انهارت بعد ذلك عندما أخذت تعتمد على المرتزقة من القبائل الألمانية. ومن القادة القدماء الذين خصهم بالذكر كان هنيبعل حيث ذكر أنه قام بقيادة جيش مكون من عدة قوميات، بدون أن تحدث أي مشاكل أو محاولات تمرد بسبب قسوة هنيبعل في فرض النظام. وذكر عيوب حكام عصره، حيث اتهم أحدهم بعدم الكفاءة، وآخر بعدم القابلية على اتخاذ القرار، بينما امتدح آخرين. وخص في مدحه سيزار بورجيا الذي عرفه جيدا، فقد امضى ماكيافيللي شهورا طويلة في إقناعه بعدم مهاجمة فلورنسا. وأوضح أن سيزار بورجيا كان بمنتهى القسوة عندما دعت الحاجة، وعرف كيف يثير الخلاف بين أعدائه، فهو بالنسبة لماكيافيللي الحاكم المثالي.
لم ينشر ماكيافيللي كتابه، ولكن الكثيرين اطلعوا عليه كمخطوطة، ما أثار استياء البعض، حيث اعتبروه دعوة إلى الشر والظلم، ولكن آخرين اعتبروه محاولة من ماكيافيللي لتوضيح الواقع السياسي الذي يرفض الكثيرون الاعتراف بوجوده. و لكن الكتاب نشر عام 1532، اي بعد وفاته بخمس سنوات. وقام البابا بمنع الكتاب، ووصفه أحد القساوسة بأنه كتاب كتبه إصبع الشيطان. ولكن كل هذا لم يمنع انتشاره ليصبح أحد أكثر الكتب إثارة للجدل حتى الوقت الحاضر.
أهدى ماكيافيللي كتابه الشهير للورينزو دي مديتشي، الذي كان من أمر بسجنه وتعذيبه أصلا. ووصف عائلة مديتشي في إهدائه بالأمراء، على الرغم من أنهم لم يكونوا كذلك، ولم يصفوا أنفسهم بهذا الشكل. والظاهر أن هدف ماكيافيللي كان إقناع لورينزو مديتشي، بتوظيفه في النظام الجديد، بدون جدوى، حيث أنه يذكر في الإهداء بأن الكتاب هو نتيجة دراسته لخبرات الرومان واليونانيين، بالإضافة إلى الخبرة العظيمة، التي اكتسبها من خلال عمله الحكومي السابق، ووصف حياته البائسة بعد خروجه من العمل.

السنوات الأخيرة لماكيفيللي

من غير المعروف إن كانت عائلة مديتشي استلمت كتاب «الأمير»، ولكنها تجاهلت محاولاته للحصول على وظيفة، على الرغم من اتصاله بكل من يعرفهم. وكان كل ما حصل عليه ماكيافيللي بضع مهمات صغيرة جعلته يسافر إلى بعض الدول الأوروبية. وحاول جاهدا مرة أخرى للحصول على وظيفة حكومية مرموقة مرة أخرى، عندما أطيح بعائلة مديتشي عام 1527، ولكن بدون جدوى حتى توفي في السنة نفسها.
مهما كان رأي النقاد والمهتمين في كتاب «الأمير»، فإنه كتاب يشرح بإسهاب وجهة نظر أحد أكبر المثقفين والدبلوماسيين في القرن السادس عشر. ولا يزال أحد أهم الكتب في تاريخ الحضارة.

٭ باحث ومؤرخ من العراق

Sign In

Reset Your Password