كيف ساهمت مكاتب الدراسات في تأزيم أوضاع المغرب وبيع الوهم للدولة

فشلت الحكومة المغربية في تقديم نموذج تنموي الى الشعب والملك محمد السادس الذي طالبها بمخطط، كما فشلت في إصلاح قطاع التعليم الذي يعتبر رافعة أساسية لكل الدول التي ترغب في الرقي واللحاق بالركب الحضاري. لكن هذا الفشل تتحمل فيه الدولة العميقة في المغرب وليس فقط الحكومة المسؤولية الكبرى بسبب سياستها التي اعتمدت على ماركتينغ مكاتب الدراسات بدون فائدة تذكر بل تحولت بعض المكاتب ال مافيا حقيقية.

ورغم إنتاج الدولة المغربية أدبا كبيرا حول التنمية بسبب ما يصطلح عليه مشروع التنمية البشرية الذي بدأ سنة 2005، فالنتائج الهزيلة بارزة للعيان وتتلخص في رهان الشباب المغربي على الهجرة بكل ما تحمله من مخاطر الموت بدل البقاء في وطن لم يضمن لهم الكرامة. لقد أصبح وضع المغاربة بمقاييس علمية سنة 2019 أسوأ من سنة 2005، تاريخ انطلاق مشروع التنمية. وأصبحت كل القطاعات تعيش مشاكل تصل الى التراجيديا وعلى رأسها التعليم نتيجة استراتيجية الدولة التخلي عن هذا القطاع بشكل تدريجي لصالح القطاع الخاص.

وعلاقة بالتعليم، لأول مرة ومنذ الاستقلال منتصف الخمسينات، تقدم الدولة المغربية على نهج التعاقد المؤقت بدل التوظيف الرسمي الطويل المدى المتعارف عليه. والتساؤل: لماذا يفشل المغرب في إنتاج نموذج تنموي طموح ينطلق من الواقع الحقيقي للبلاد؟

لقد فشلت الحكومة ومعها الدولة العميقة بما فيها الملكية ومستشاريها في إعداد مخطط حقيقي للتنمية الشاملة للبلاد لغياب القدرة على إنتاج الأفكار بسبب سلبيات هيمنت على وضع التصورات خلال العقدين الأخيرين.

منذ إرساء ما يصطلح عليه بالعهد الجديد، تفاحشت في المغرب ظاهرة مكاتب الدراسات الوطنية والأجنبية التي تنتج الدراسات التوجيهية لصالح الدولة. وأصبحت كل مؤسسات الدولة بدون استثناء تخصص ميزانية هامة لهذه المكاتب لكي تنتج تصورات حول كيفية عمل قطاعات معينة في الوقت الراهن والمستقبل. وانتعشت هذه المكاتب مثل الطفيليات، الأجنبية فتحت مكاتب لها في البلاد، ونسبة هامة من الأساتذة الباحثين تخلوا عن البحث العلمي في الجامعات وفتحوا مكاتب للإستفادة من الكعكعة.

وهكذا، بعد مرور عشرين سنة الأخيرة، استثمر المغرب عشرات الملايين من الدولارات في مكاتب الدراسات، وفق بعض التقديرات غير الرسمية. وأصبحت المؤسسة الملكية تطلب دراسات، والمؤسسة العسكرية تطلب دراسات، وشركات الدولة تطلب دراسات والوزارات تطلب بل حتى أفقر المجالس البلدية تطلب دراسات.   وبعد عشرين سنة من الدراسات، يستمر المغرب بدون انطلاق نحو التقدم بل يتقهقر في الكثير من القطاعات مثل الشغل والصحة والتعليم باستثناء بعض مظاهر التقدم الخادعة مثل القطار السريع. ومن ضمن الأمثلة، ووفق أرقام الدولة نفسها، لا يلتحق بالتعليم 240 ألف طفل سنويا لهم الحق في التمدرس.

لقد ظهرت مكاتب الدراسات في الغرب، وجاء ظهورها لمواكبة تطور القطاع الخاص بحكم المراحل التي قطعتها الرأسمالية في الغرب ومن عناوينها تعاظم قوة الشركات التي أصبحت عابرة للقرارات ومتعددة الجنسيات. بينما بقيت الدول ترتكز على مؤسسات مرتبطة بها ويجري تمويلها من ميزانية الشعب. ومن ضمن الأمثلة، لقد اعتمدت الولايات المتحدة على دراسات أنجزتها مؤسسات عمومية وشبه عمومية، وأبرزها مؤسسة راند  RAND ومؤسسة داربا DARPA، حيث لا يمكن فهم التقدم الأمريكي بمعزل عن مثل هذه الوكالات التي تولت وضع الدراسات في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي تخص الوضع الداخلي والعلاقات الخارجية.

لكن ما حدث في العالم الثالث هو إجبار مؤسسات مالية دولية حكومات عدد من الدول المتخلفة على طلب دراسات من مكاتب غربية مرتبطة بهذه المؤسسات. وفي حالة المغرب، من ضمن الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي في بعض الحالات هو اقتطاع نسبة من هذه القروض لتمويل دراسات بشأن قطاعات تشهد مشاكل. وتأتي الدراسات لتبرر الحصول على القروض وتبرر التوصيات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي.

لقد أنتجت معظم مكاتب الدراسات في حالة المغرب تقارير تبرر القروض التي يقدمها صندوق النقد الدولي، وتقوم بتزيين وتجميل سياسة الدولة المغربية بالحديث عن مكاسب ونتائج لا يلمسها المواطن العادي في أرض الواقع. لقد تحولت هذه المكاتب، بسبب دراساتها غير الواقعية، الى أشبه بمافيا حقيقية تساهم في الفساد المالي والإداري الذي يعيشه المغرب. وكشفت دراسات التشابه القريب بين مضمون الدراسات التي تنجزها مكاتب دراسات أجنبية ووطنية مقارنة مع دراسات تهم مجتمعات أخرى، إذ هناك ظاهرة نقل ونسخ  الدراسات مع إجراء تغييرات طفيفة وتقدم لكل دولة على أساس أنها خاصة بها. والمثير هو أن بعض مكاتب الدراسات تطالب الدولة الزبون بتطبيق الدراسات دون الكشف عن مضمونها علانية.

لم يكن للدولة المغربية الوعي الكافي بقيمة الدراسات المنطلقة من الواقع المغربي وبخبراء مغاربة. لم تنتبه الى ضرورة تأسيس وكالات للدراسات بدل فقط وكالات للتسيير. نعم، كانت بعض الوكالات في المغرب تنجز دراسات في الماضي، لكن أجبرت على التخلي عن هذا المنهج بسبب وقوف أسماء نافذة في الدولة وراء “تجارة مكاتب الدراسات”.

لقد ساهمت مكاتب الدراسات في بيع الحلم للمغاربة بل وخداع كل المؤسسات عن وعي أو بدون وعي بما فيما المؤسسة الملكية، حيث ساهمت بعض الدراسات في إقناع الملكية سنة 2014 مثلا بالقول بأن المغرب سيصبح دولة صاعدة، وجرى تصديق هذه الدراسات، وكان يكفي على مؤسسات الدولة النظر الى عدم تزحزح المغرب من مكانه في التنمية البشرية منذ بداية العقد الماضي.

معظم هذه الدراسات أصبحت جزء من فساد اقتصاد الريع الذي يشهده المغرب والذي يقود البلاد الى فقدان محطات كثيرة في سكة التقدم، والآن قد يفقد أهم محطة وهي محطة التعليم.  فتأملوا ما يجري في البلاد.

Sign In

Reset Your Password